اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سمير خضر خليفة مشاهدة المشاركة
ثلاثية عائد

(1)
راشيل كوري
بقلم سمير خضر خليفة
أوفد مستر جورج من قسم التربية وعلم النفس في إحدى الجامعات الأمريكية، إلى إحدى مدارس وكالة الغوث في مخيم جنين، لدراسة أثر الحرب على سلوك الأطفال .
أخذ مكانه في قاعة النشاطات أمام حشد كبير من الأطفال وبعض الإعلاميين. بدأ يعرض صوراً أخذت لأطفال من بلاد العم سام وهم يلعبون ويمرحون في حدائق وباحات مدارسهم النموذجية . و بعربيته المكسرة التي أصر على التحدث بها دون مترجم، شرع يشرح لهم عن حقوق الطفل في الحياة والتعلم واللعب، متحدثاً عن ضرورة السلام ونبذ العنف والإرهاب . استأذن صبي بالانصراف . لم يكن اسمه بلائحة المدير التي اختارها ولقنها بعض الأسئلة وأجوبة لأسئلة مفترضة، محذرا باقي الطلاب من السؤال أو النقاش، مهددا بأن لا يقوم احدهم بالحديث إلا بإشارة منه أو من مساعده . عاد الصبي بعد فترة قصيرة حاملاً لوحة من الكرتون رفعها مباشرة بوجه مستر جورج، فامتعض و ظهرت عليه علامات الانزعاج والحيرة لما شاهده، ارتباكه الفاضح لم يترك له مجالا إلا الاعتذار عن متابعة محاضرته العصماء. مبرراً ذلك ارتباطه بموعد هام. ثم انسحب يتبعه المدير ومعاونه . استدار الفتى رافعاً لوحته باتجاه الطلاب والإعلاميين، دُهش الحضور لدى رؤيتهم صورة كبيرة لجرافةٍ "إسرائيلية" وفي وسط اللوحة صورة لفتاة أمريكية اسمها راشيل كوري ترتدي كوفية فلسطينية ،وكتب على اللوحة بخط كبير باللغتين العربية والانجليزية:
" هذه الإنسانية قالت كفى".

(2)
الجدار
زحفت أفعى إسمنتية امتدت على طول الوطن الجريح. قاطعة أوصال ارض الأجداد المتوارثة منذ كنعان الأول . لِتُخلد بالذاكرة تاريخاً جديداً كهزائمنا المتعاقبة، وليبدأ التاريخ منها. فبتنا ندون تاريخنا ما قبل الجدار وما بعد الجدار. حّول الفتية الجدار إلى لوحة إعلانات كبيرة . افرغوا عليها هواجسهم وأحلامهم الصغيرة . هنا رسم لقلب دامٍ غرست به سكين معلق على خاصرة الوطن... هناك ذكرى لأسماء رحلت أو ما تزال... رسوم لأعلام وطنية أو فصائلية... صور لشهداء.... ملصقات لمناسبات وأعياد اجتهدنا باستنساخها حتى غطت كل أيام سنواتنا. وحده هذا الفتى رسم ساعدان عاريتان ولِدا من رحم الأرض وامتدتا على الجدار الأسمنتي، تفتحانه كستارة نافذة، فينكشف المشهد عن صورة فجوة قُُطعت قضبان المعدن بداخلها، لتمر من خلالها أشعة الشمس... كَتَبَ فوقها "عائدون" .
عندما دخل المعلم غرفة الصف كان جميع الطلاب على مقاعدهم ما عدا ذلك الصبي. بعد قليل بثت المحطات الفضائية نبأً عاجلاً: " لقد تسلل فتى من خلف الجدار، ونفذ عملية في إحدى المستوطنات استشهد على إثرها ومازالت هويته مجهولة.


(3)
غرباً
انقلبت حياه الصبي منذ اليوم الذي دخل والده حاملاً حمامةً مكسورةَ الجناحِِ. ليصبح المسئول الوحيد عن إطعامها والاعتناء بها، حتى استردت عافيتها وقدرتها على الطيران من جديد.
ذات مساء جلس الصبي على حافة سطح المنزل يراقب حمامته تحوم فوقه. فجأة حلقت الحمامة عالياً، وبدأت تشق طريقها باتجاه الغرب. حتى اختفت عن أنظار الصبي بين الغيوم الملونة بلون الشفق القاني . هدّأ الوالد من روع ولده مواسياً: " يا ولدي لا بد من يوم تعود به الطيور إلى أعشاشها ". عندها استبدل الصبي رسوم الحمام التي ملء بها كراريسه المدرسية، وجدران زقاق المخيم، برسوم لبيت حجري كما أخبره والده يطل من سفح تلة غرباً على بحر حيفا.