قصة شهرزادية


تناثرت رائحة شالها الرماني قطعا من الورد المجفف وبقايا بخور مطحون ومسكا ، يهفها الهواء الطلق من على شرفة قصرها الرائع ، تحدق في تفاصيل الممر المؤدي إلى الغابة القريبة.
لملمت شالها الرماني المزكرش بخيوط ذهبية مرصعة بفصوص قرمزية تتلألأ تحت أشعة الشمس كما لو كانت نجوما تومض في موج السماء المظلمة ؛ ثم رفعت ساقها اليمنى حتى استقرت قدمها على حافة الشرفة ، وتبعتها اليسرى ، ثم قفزت حتى اختلطت أصوات بهجتها بتدافع أمواج الماء في المسبح ثم ارتطامها على السطح ، شعور غامر بالمغامرة.

تسربل شالها الرماني المزركش بخيوط الذهب وفصوصه القرمزية المتوهجة على سطح الماء حين أرخته عن رأسها وكتفيها ، ونثرت على وجهه حبوبا من القمح ، فتدافعت الحمائم والعصافير الصغيرة تلتقطها حبة حبة وهي ساكنة.
ظلت ساكنة صامتة حين اقتربت منها حمامة حطت على كتفها تصدح بهديل جميل ، فأرسلت جفنيها في شعور استرخائي لذيذ ، ولكنها ظلت ساكنة صامتة ، حتى مال رأس الحمامة نحو رأسها تحرك منقارها على فروته بلطف..

***

ذات يوم.. تساءل الناس : من أين خرج سمك القرش هذا ؟
لا أحد يدري ؛ فالمسبح لا يتصل بالبحر ، وكيف لأحد أن يـُدْخلَ القرشَ المسبحَ وهو مراقب ؟! لا أحد يعلم ، ولكن المؤكد أنه هو من التهم الأميرة ، فلا أثر لها سوى شالها الرماني المزكرش بخيوط الذهب والفصوص القرمزية..
وهل سيجرؤ أحد على الاقتراب من القرش بله دخول جوفه والتفتيش بداخله ؟
بلى سيجرؤ...

***
إنه إسماعيل ! ابن السماك الغني ، نعم إنه صائد سمك غني ، فقد بدأ رحلة الألف ميل بأسماك (الميد) الصغيرة ، يقوم بشيها وبيعها للبيوت المجاورة ، حتى تدرج في عمله فوصل إلى ما وصل إليه ، حيث افتتح مطعما شهيرا وسط المدينة في عمل المأكولات البحرية ، در عليه
رأس مال جيد ليبدأ مشواره التجاري.

***

إسماعيل.. لم يكن يعشق الأميرة ، ولم يحلم بها يوما ، فالذي يدفعه لإنقاذها ليس الحب ، وإنما.. المغامرة ! والمغامرة ليست مقصودة لذاتها بقدر ما يدفعه أمر عظيم آخر..


***

لم يكن أمام والد الأميرة إلا أن يستدعي إسماعيل ابن السماك الثري كي يقنعه – كما يظن- بإنقاذ الأميرة ، وله ما له من المكافآت المجزية وإن كان زواجه منها. فرغم أنه ابن ثري كان من وجهاء المدينة بعد غناه ، إلا أن الملك غير مقتنع بفكرة تزويجه من ابن رجل كان في يوم من الأيام سماكا فقيرا ، إن ابنته تستحق أميرا ورث الإمارة والثروة والمجد أبا عن جد لا عن جهد ذاتي ، سليل نعمة ليس بحاجة إلى أن يتعلم أصول الحياة المترفة.
الكل يعرف هذه المعادلة..

امتثل إسماعيل واقفا أمام الملك شاخصا ببصره الحاد نحو الملك الذي أخذ يصرح له بالطلب الصعب –كما يظن- ولم يحرك رأسه بالإيجاب حتى قال الملك أخيرا : ماذا تقول في عرضنا يا بني ؟
طأطأ إسماعيل رأسه ثم رفعه بسرعة خاطفة قائلا : أرجوك أيها الملك امنحني فرصة الخوض في هذه التجربة من دون أن تعطيني أي مقابل ، هذا شرطي..
بهت الملك ، ثم تهلل وجهه : "لك ما تريد يا بني ، انطلق من لحظتك هذه.." وانطلق إسماعيل..

توقف إسماعيل أمام المسبح يفكر بتركيز عميق مغمض العينين ، ثم قام يتأمل حركة القرش وهو يسبح مضطربا ذهابا وإيابا على طول المسبح. لبس لباسا خفيفا لكنه متين ، وقرر أن يقفز في الماء بسرعة ، وحين تدافعت الأمواج من حوله إثر قفزته القوية انتبه القرش فاتجه نحوه بهدوء. تساءل إسماعيل في تلك اللحظة : هل سيفتح القرش فمه بقوة حين يقترب مني ؟ كيف لي أن أمرق إلى جوفه مباشرة دون أن يمزقني ؟
طفرت إلى ذهنه فكرة ، فخرج من المسبح مسرعا ، ثم أحضر ورقة وقلما وكتب بضع كلمات ، ثم طوى الورقة وربطها بحجر ثقيل. قفز إلى المسبح ثانية ، وحين اقترب منه القرش فاتحا فمه للافتراس رمى الحجر في جوفه.

***

في هذه الأثناء كانت أم إسماعيل تصلي وتبتهل إلى خالقها كي ييسر مهمة ابنها ، هي تعرف إسماعيل جيدا حين يخطط لإنجاز مهمة ما ، وليست هذه المهمة بدعا عن الأخريات ، مآلها إلى نتيجة ما قد ينجو بها أو..
واستسلم الملك لقلقه وبكائه.. يروح ويجيء كالثكلى ما تعرف مستقرها، إلى أن صاح البشير..

***

في جوف القرش.. فتحت الأميرة الورقة المربوطة بحجر وقرأت ما فيها: إن كنتِ على قيد الحياة فأعيدي رمي الحجر إلى المسبح ، وما عليك في هذه الأثناء سوى قرص القرش من سقف فمه كي يفتح شدقيه إلى الآخر.
وقف إسماعيل مستعدا بانتظار الإشارة ، حاملا بيده عصا طويلة ، مرت دقائق ثم انفلت حجر نحوه وتبع ذلك اضطراب القرش ، فأدرك إسماعيل حينها أن الأميرة بدأت تهاجم سقف فمه بقرصاتها الانتقامية.
ركز إسماعيل في حركة القرش بسكون صارخ ، إلى أن انطلق فجأة كالصاروخ واندفع في جوف القرش صارخا ، حيث خدشه ناب من أنيابه الحادة في ساقه. وحين استقر بداخله بادرته الأميرة بالمساعدة. لم يعِ إسماعيل ماحوله ، فقد غط في نوم عميق مع الجو الرطب، والأميرة تتفكر وتتأمل في بسالة هذا الشاب المغامر ، الذي ضحى بحياته من أجل إنقاذها رغم علمها بعدم ميله نحوها وعشقها هي له ، إذا ما باله ينقذني الآن ؟
في هذه الأثناء بدأت العصارات الهاضمة تفرز معينها الفياض ، فانتبهت الأميرة وأيقظت إسماعيل بهلع : هيا لنخرج بسرعة وإلا هرستنا هذه العصارات ! تحرك إسماعيل متثاقلا : ولكنني لم أتجول في جوفه بعد ، أريد أن أستمتع بهذه التجربة. هزته بعنف : ولكننا في خطر ألا تستشعر ذلك؟!! أجابها : نعم ربما.. لنخرج من المعدة ونستقر على لسانه ، أمامنا رحلة شاقة كي نتجاوز المريء ( فضحك كأن لم يضحك من قبل). لم تشاركه الأميرة الضحك بل هرعت نحو المريء تعبره وهو خلفها.

وصلا.. واستعد إسماعيل لوضع العصا بين فكي القرش طوليا كي يهربا بأمان ففعل ، أمسك بيد الأميرة وانطلقا في جوف المسبح هذه المرة ، وسرعان ما استقبلهم الجنود حين قفزا نحو السطح وحيث انطرحت الأميرة على الأرض في لهاث متتابع ، فحملها الملك بين يديه وقد أغرقها بدموعه ونبضات قلبه المبتهج، بينما ألقى إسماعيل جبهته على الأرض شكرا لله.

***

هنا توقفت شهرزاد عن الكلام المباح ، فقد لاح وجه الصباح ، وإن في القصة ما لم يباح.. فقفزتُ نحوها أرجوها أن تخبرني خبر إسماعيل في رغبته التي دفعته إلى إنقاذ الأميرة من جوف سمك القرش.. فتثاءبت شهرزاد وتثاقلت في حديثها حين قالت : لقد خسر أملاك والده كلها...


***