من ديوان قراءات في ساحة الاعدام للشاعر والمفكر الفلسطيني " أحمد حسين "

أَلسَّبْتُ عيدٌ: وَالأَحَدْ
بابٌ على القُدّاسِ
وَالإثْنَيْنُ مَجْزَرَةٌ عَلى شَرَفِ المَدينَة.
سَقطَتْ عَلَيْهِمْ ساحَةُ الأَقْصى
وَكَمْ حَذَّرْتُهُمْ أَلاّ يُصَلّوا تَحْتَها،
عَبَثًا!
سَتَبْلُغُ رُقْيَةُ الحاخامِ غايَتَها
وَنَخْرُجُ مِنْ مَواعيدِ الصَّلاةِ
إلى مَواعيدِ المَسافاتِ الحَزينَة.
خَرَجوا عَلَيْنا مِنْ تَعاريجِ الحُروفِ
كَأنَّنا كُنّا مُفَكِّرَةً لَهُمْ،
لَمْ يَعْرِفوا لُغَةَ التُّرابِ، وَلَمْ يَكُنْ شَجَرٌ لَهُمْ
فَتعَلَّموا لُغَةَ الغُبارِ لِيَزْرَعوا خَشَبَ السَّفينَة.
مَلِكُ المُلوكِ يَلُمُّ جُثَّتَهُ وَيَخْرُجُ مِنْ شُقوقِ الوَقْتِ
مُتَّجِهًا إلى المِحْرابِ يَبْحَثُ في زَخارِفِهِ الثَّمينَة،
عَمّا تَبَقّى مِنْ وَدائِعِهِ
وَيَسْتَجْلي عَلى أَجْسادِ أَسْراهُ العَلامَة.
سَحَبَ المَدينَةَ كَالرِّداءِ
رَمى بِها في ساحَةِ المَبْكى وَقالَ لَها: ارْجِعي حَجَرًا
سَنَبْدَأُ مِن صَباحِ الأَمْسِ مَمْلكةً إلى يَوْمِ القِيامَة.

يا أيُّها المَوْتُ المُدَجَّجُ بِالوُضوحِ كَأنَّكَ البُشْرى
لِماذا يُغْلِقونَ عَلى دَمِ القَتْلى دَفاتِرَهُمْ
وَيَمْحونَ الوَسامَة
عَنْ وَجْهِكَ النَّبَوِيّ؟
إنَّ الرَّبَّ يَعْلَمُ كَمْ مِنَ القَتْلى يُريدُ لِيَحْفَظَ الأقْصى
وَيَقتُلَ مَنْ أَقامَهْ.

«هذي بِضاعَتُنا فَرُدّوها إلَيْنا!
إنّا خَلَقْناكُمْ وَلكِنْ ليسَ مِنْ طينٍ
فَلا أَنتُمْ مِنَ القَتْلى وَلا دَمُكُمْ عَلَيْنا.
أَجْسادُكمْ أَجْسادُكمْ،
فَلْتَعْبَثوا فيها كَما شِئتُمْ، فَنحْنُ قَدِ انْتَهَيْنا.»

يا أَيُّها المَوْتُ الصَّباحيُّ الرَّشيقُ كَرَقْصَةِ الأَفْعى
انْتَشِرْ حَتّى حُدودِ الزمن
وَافْتَتِحِ الفُصولَ الأَرْبَعَة
بِدِمائِنا،
لَمْ يَبْقَ ما نُعْطي لأَبْراهامَ إلاّ ما حَوى الزَّيْتونُ مِنْ زَيْتٍ
وَما نَفَضَتْ مَواعيدُ اللِّقاحِ عَلى ثِيابِ الزَّوْبَعَة.
كَمْ ماتَ هذا النَّحْلُ كَيْ يَحيا
وَكَمْ أَخَذَ الرَّحيقَ مِنَ الزُّهورِ وَأَرْجَعَهْ
عَسَلاً لِمائِدَةِ النَّبِيِّ
وَشَمْعَةً لِقِراءَةِ التَّوْراةِ في القُرْآنِ
وَالسَّفَرِ الشَّهِيِّ إلى حَليبِ الـمُرْضِعَة.
كَمْ ضاعَ مِنْ وَجَعٍ عَلى التَّرْتيلِ
وَانْكَسَرَتْ عُيونٌ كَالزُّجاجِ عَلى جِدارِ الصَّوْمَعَة!

يا أيُّها النَّوْمُ الخُرافِيُّ العَتيقُ هَلِ اسْتَفَقْنا كَيْ نُهاجِرْ،
وَهَلِ اكْتَشَفْنا حُزْنَنا عَبَثًا،
وَضَيَّعْنا إلى الأَبَدِ الرُّجوعَ مِنَ النِّساءِ إلى البَيادِرْ؟
ما أَجْمَلَ الوَطَنَ الّذي صَنَعَتْهُ أَيْدينا وَلا نَدْري،
وَما أَقْسى الحَنينَ إلى بِلادٍ لَمْ تُغادِرْ
إِلاّ أُمومَتَها التي نَشَزَتْ عَلى الصَّلَواتِ تومِئُ لِلْمَهاجِرْ!

أَعْطَوْا لَنا رَبّاً لِنَعْبُدَهُ لَهُمْ
وَحِجارَةً صارَتْ مِنَ التَّقْديسِ دُفْلى،
أَلمَوْتُ أَحْلى أَمْ دُخولي القُدْسَ
مِنْ بَوّابَةِ الأَسْباطِ أَحْلى؟
يا صاحِبي البَكْرِيَّ كَمْ قَتَلوكَ بَيْنَ الدّارِ وَالمَقْهى
فَهَلْ أَدْعوكَ في التَّأبينِ قَتْلى؟

كَيْفَ انْتَظَرْنا كُلَّ هذا الوَقْتِ كَيْ نَبْكي،
هَلِ الْتَقَتِ الوُعودُ أَوِ الشُّعوبُ أَوِ الخَناجِرْ
يَوْمًا عَلى جُرْحٍ كَهذا
أَوْ تَعاقَبَتِ الدُّروبُ عَلى مُسافِرْ؟
يا صاحِبي البَكْرِيَّ، إتْبَعْني إلى بَوّابَةِ الأَسْباطِ
نَخْرُجُ وَحْدَنا،
شَتّانَ بَيْنَ دَمٍ عَلى حَجَرٍ
وَآخَرَ في أَراجيحِ الصَّلاةِ يَمُرُّ في قَوْسِ الظَّلامِ إلى أَراجيحِ السَّرائِرْ
لا أَرْضَ خَلْفَ السّورِ،
لكِنّا سَنَخْرُجُ مِنْ حُدودِ الوَقْتِ
حَيْثُ لَمْ يَلْبَسْ أحدٌ ثِيابَ الجُنْدِ بَعْدُ
وَلَمْ يُقَرِّرْ زِيَّهُ الوَطَنيّ،
تَعْدو في مَشِيئَتِهِ شُهورُ القَمْحِ مِنْ بَلَدٍ إلى بَلَدٍ،
وَصَوْتُ الطَّيْرِ يُمْطِرُ في حَدائِقِهِ قَصيدَتَهُ التي لا تَنْتَهي أَبَدًا،
وَتَمْتَلئُ الدَّفاتِرْ.
كَنْعانُ يَنْسِجُ حُلَّةً لِلصَّيْفِ مِنْ مِحْراثِهِ،
غَيْرَ الّتي اهْتَرَأَتْ،
وَيَشْتاقُ الضُّيوفَ بِبابِ حُجْرَتِهِ
إذا انْسَحَبَتْ ثِيابُ الشَّمْسِ عَنْ قَدَمِ المُسافِرْ.
نُلْقي بِرحْلَتِنا عَلى قَدَمَيْهِ،
ثُمَّ نَعيشُ قَبْلَ مَجيئِهِمْ وَنَموتُ قَبْلَ مَجيئِهِمْ،
لا نَكْتُبُ الأَشْعارَ
إلاّ ما تَخُطُّ زَوارِقُ النَّزَواتِ في دَمِنا،
إذا التَمَعَتْ عُيونُ الأُقْحُوانِ مِنَ النَّوافِذِ
لَمْ نَخَفْ أحَدًا،
وَلَمْ نُسْدِلْ عَلى الفَرَحِ السَّتائِرْ.
لا القُدْسُ أَرْمَلَةُ النَّبِيِّ،
وَلا دِمَشْقُ رَهينَةٌ لِغَدٍ
سَنَحْمِلُهُ عَلى أَقْدامِنا سَفَرًا إلى غَدِهِمْ
وَلكِنْ لا نُسافِرْ!
يا صاحِبي البَكْريَّ، هذي الخَمْرُ لا تُجْدي
فَلا صَحْوٌ يُساعِدُنا وَلا سُكْرٌ،
وَأَضْيَقُ مِنْ مَواعيدِ الصَّلاةِ لِوَقْتِها عُنُقُ الزُّجاجَةِ
فَاعْتَصِمْ بِنَشيدِكَ القَوْمِيِّ مَرْثِيَةً لهذا المَوْتِ
لكِنْ لا تُهاجِرْ.
لا شَمْسَ فَوْقَ العالَمِ العَرَبِيِّ
إلاّ ما تُعَلّقُهُ الدِّماءُ عَلى امْتِدادِ الأُفْقِ مِنْ شَفَقٍ
وَما تُلْقي المَجازِرْ...
مِنْ نارِها، وَالزِّنْدُ حينَ تَمُدُّ فاطِمَةٌ فَجيعَتَها
إلى أَعْلى وَتَلْتَمِعُ الأَساوِرْ.
هَلْ يَأْكُلُ الشُّعَراءُ خُبْزَكِ،
يَكْبُرونَ على ضِفافِ يَديْكِ عُشّاقًا،
وَيولَدُ مِنْكِ أَطْفالُ الحِجارَةِ مَرَّتَيْنِ وأَنْتِ عاقِرْ؟
لا. ليْسَ عَدْلاً!
أُكتُبُوا عَهْدًا لِفاطِمَ،
إنْ تَحَرَّرَتِ البِلادُ عَلى فَتًى مِنْ كَفْرِ قاسِمْ
وَصَبِيَّةٍ مِنْ دَيْرِ ياسينٍ عَشِيَّةَ عُرْسِِها
تَمْضي إلى الحِنّاءِ باكِيَةً
وَتَلْبَسُ حُزْنَ فاطِمَةٍ خَواتِمْ:
لَمّا انْتَهى الغُرَباءُ مِنْ تَجْوالِهِمْ
أَلقَوْا عَلَيْكِ رَحيلَهُمْ وَأَقاموا
وَقَفَ العَويلُ عَلى فِنائِكِ وَقْفَةً
لَمْ تَنْصَرِفْ عَنْ بابِها الأَيّامُ
وادي الفَجيعَةِ لا تُفارِقُ صُبْحَهُ
شَمْسٌ وَلا يَدْنو إلَيْهِ غَمامُ
يا لَيْتَ إذْ عَبَروا إلَيْكِ تَفَرَّقَتْ
عَنْكِ الدُّروبُ وَماتَتِ الأَقْدامُ
يا أَيُّها الغُرَباءُ هذا بابُها
سَقَطَ الرِّتاجُ وَفُضَّتِ الأَخْتامُ
يا أَيُّها الغُرَباءُ كَيْفَ وِصالُها
فَالْعِشْقُ عِشْقٌ وَالكَلامُ كَلامُ

الآنَ تَدْري كُلُّ فاطِمَةٍ
لِماذا أَغْرَقَتْ بِالدَّمْعِ مِنْديلَ العَروسِ
وَأَطْفَأَتْ بِالخَوْفِ فَرْحَتَها لِتَنْسى.
أَلْقَتْ أَغانيَِها طُيورُ القَلْبِ
وَاضْطَجَعَتْ نَوافِذُهُ عَلى الفَلَواتِ
وَالأَزْهارُ تَضْحَكُ عِنْدَ نافِذَةِ الحَبيبِ سُدَىً،
وَأَغْلى
ما في الفُؤادِ نُواحُهُ العَفْوِيُّ:
واأسَفاهُ
واأسَفاهُ
واأسَفاهْ....