(غفران) نصٌ كثيف الصور يقف فيه القارئ حائراً بين الواقع و الخيال، بين الحلم و الحقيقة ... فتارة يشعر أن ما يقرأه هو حلم تمنّى الشخص في النص ان يكون حقيقة، لتنقله الفقرة التالية إلى صورة واقعية لأبٍ يتحدث عن ابنته التي كبرت فشعر بغرابة ذلك . هو ما يزال يراها تلك الطفلة الصغيرة التي لم تكبر لكن الحياة صدمته بأن تلك الصغيرة أصبحت أُنثى ناضجة على عتبات الزواج ,
بدا الأب في النص متشظياً بين الواقع و الخيال في سرده لأنه لم يستطع رؤية ابنته على غير الصورة التي كانت في خياله، فزواجها كان بمثابة الصحوة بأنها انتقلت من مرحلة الطّفولة لكنّه لم يلحظ ذلك"


"غفران امرأة كبرت فجأة على حين غفلة مني كأنها لم تكن طفلة يوما".

يبدأ النص بعرض صورة تلك الصغيرة المشاغبة المدللة التي تقتحم عالم والدها عابثةً بطفولة بأوراقه، لينتقل مباشرة في الفقرة الثانية إلى صورة الفتاة التي كبرت و تغيرت و كأنه عاتبٌ عليها. فهي لم تعد تأبه بشذا الياسمين الذي كانت تعشقه: "

"لم تعد تأبه كثيرا للياسمين، صار لها عطر أنوثة آخر"

و غيرت من شكل تصفيف شعرها لم تعد تربطه بالشرائط

" غفران ما عادت تعقد شعرها بشرائط زينة"
و هذه من دلالة على نضجها كأنثى فالشرائط مرتبطة بالطفولة، وعند اكتشاف كنوز الأنوثة يتحرر الشعر من عقدة الشرائط لينتثر معلناً بدء مرحلة النضج و كشف الكنوز و عرضها. يقف الوالد حائراً أمام غفران الطفلة و غفران المرأة الناضجة
" تأملتها... هذه الطفلة.. هذه المرأة".
"غفران" اسم الفتاة وهو اسم له دلالاته في النص ... بدا الأب و كأنه يطلب المغفرة من ابنته التي لم نستطع أن نجزم بأنها موجودة حقيقة أو أنها خيال؛ لأنه لم يلحظ أنها كبرت, يطلب المغفرة من حلمه الذي لم يستطع أن يحققه .
غفران كما رسمها فتاة واثقة جريئة قوية فهاهي ترتدي الحجاب دون أن يذكر أنها ناقشته في قرار ارتدائه: " لترتدي حجابها الذي لا أدري متى اشترته ولا من ذي التي أقنعتها به". في طفولتها كانت متعلقة بالمرآة " وغفران متعلقة بمرآة لم أحدد بعد على أي جدار سأعلقها، تقف أمامها فتنسى أنها طفلة، وهي تحاول وضع شريط على شعرها.. شريط مزين بفراشة" لكنها عندما نضجت لم تعد تستخدم المرآة كثيراً و هو أمر نادر الحدوث في عالم النساء: " لا حاجة بها للتجمل، فأصبحت المرآة هكذا مجرد شيء مركون على جدار، شيء يخصني أكثر مما يخصها" ليبدو ذلك مؤشراً على عظم ثقتها بذاتها فما حاجتها للمرآة إذا كانت ترى نفسها جميلة لا تحتاج لزينة كثيرة لتبدو أجمل مما هي عليه في الواقع ؟!
تبدأ الجمل التي تتعلق بالوالد بصورة واقعية، لتنتهي بنفيٍ لتلك الصورة"غفران ابنتي التي لم أنجبها بعد، مكتبي الذي لم أقتنه بعد، وتبعثر أوراقي التي لا أضعها عليه". بينما كانت الجمل التي تتعلق بغفران غير منفيّة ": فتمضي وقتها إما في المطبخ الذي لم أفكر حتى الآن أين سيكون، وإما في الحديقة التي لا أملكها تسقي النباتات التي لم أزرعها بعد"كان النفي متعلقاً به فقط لتبدو غفران في النص الحقيقة الوحيدة التي نفى وجودها في بداية النص " غفران ابنتي التي لم أنجبها بعد" فتتضح حالة من الاضطراب النفسي، و الصراع الذي يجول بداخله بين الواقع و الخيال، بين الحلم و الحقيقة.
عرضت صورة خطبتها عمق الصراع بداخله. تخيل أن هذا الرجل قد أتى لسرقة ابنته التي أحبها قبله و كأنها بقرار قبولها أو رفضها ستختار أحد الحبّين، إما حب والدها القديم أو مشروع الحب القادم؛ لينفيَ والدها الذي يعرض الصورة إمكانية قبوله بأن يتشارك حصة الحب في قلبها هو و الزوج المستقبلي" حين شعرت بأنني على وشك "خسارتها" أردت أن أغادر وأنا أبدو منتصرا" .
حبه لها كبير جداً لدرجة لم يمكّنه من تقبل فكرة ارتباطها حيث مثل الارتباط خسارة والدها لها. تدخلت غفران لتحسم الأمر فسألت خاطبها عن حجم حبه لها مختبرة لدرجة ذلك الحب، ليصور والدها إجابة الخاطب بالدهاء و الخبث ، فيشعر أنه - أي الخاطب - قد انتصر و كأنهما في معركة ليفوز أحدهما بها... فلا مجال للمشاركة .
أتت القفلة كالمقصلة,بعد أن رأى القارئ مشهدا واقعياً في صوره و بينما ينتظر جواب والدها ,تُرك مُعلقاً في الهواء بانتظار جواب الوالد الذي لم يكن, كان توقيعها على وثيقة الزواج كالمقصلة مُنهيًا لذلك الحلم بما يحتويها من أشياء جميلة " الأوراق المبعثرة والياسمين والمقطوعات والفراشات واللوحات وصوتها وقصائدها وسحر تواجدها معي... كل شيء يتفلت.. ينفلت...أغلقت عيني قليلا قبل أن أجيب "لن تعرفي أبدا"
أغلق عينيه عله يستبقى شيئًا من تلك الصورة و ذلك الحلم، وآثر أن يبقى جوابه حبيس صدره. ختم النص بعودته لينفي واقعية الصورة، ومؤكدا على اضطراب الصورة والحالة النفسية.