السلام عليكم

لا أعلم تصنيفًا لما كتبت، لكن ما أثق به أنها:
مشاهد على مسرح الارتحال

المشهد الأول:[ التكون والانتقال]
يستعد البطن المملوء بعد سويعات قليلة لعملية التفريغ المنتظرة، تفريغ ارتقبه الكثيرون وأعدوا له العدة، وحان وقت الرحيل من هذا العالم الضيق إلى عالم أوسع رحب يعج بكل صور الحياة.

الأيام الأولى كانت حياة كذلك، لكنها خلت من الارتحال، وكان وروده فيها مستحيلا بحكم الفطرة وسنن الطبيعة الإلهية، إلا إن كان الخروج للاندثار قبل أن يتم الجنين رحلته التسعية؛ فارتحال الانتقال في طريقه الحتمي، ما لم تعرقله تغيرات قدرية تجبره على تغيير مساره.

المشهد الثاني: [ التغيير والاستعداد والاكتشاف]
يبدأ المولود في استكمال حياته بعد أن يغير كل أدواته والسبل الموصلة لغاياته؛ فيرتحل عن مرحلة التكون المجاني إلى مرحلة أكثر احتياجا إلى أدوات عصريّة؛ فيستبدل بحبل المدد الذي كان يمنحه كل شيء سيلا جُرافًا من الأدوات الجديدة التي تناسب أيامه التي بلغها في عالم اللحظة: فكان لينان تستلزمها هذه المرحلة الغضة، خيشوم وشهيق وزفير، أجهزة وحواس يلمس بها صورة الواقع الأوسع، ويستشعر بها المر والحلو، ويتنصت بها على ما يسعى لاكتشافه في هذا العالم الجديد، شابًا مرتحلا دون أن يدري.

المشهد الثالث: [ الانتشار والوهم والهروب]
وهي المرحلة التي تتطلب أقصى درجات الاستعداد لغزو الواقع المعاصر، في محاولة انتحارية لسبر غوره وفرض الهيمنة عليه وحجز أكبر عدد ممكن من تذاكر التاريخ عند أعتابه لقادم الأيام، تشعب وتوسع لفروع في شجرة مورقة كانت نبتة منذ قليل، وحان دورها في طرح ثمارها ليستفيد من هم حولها بها، وليستظلوا بأوراقها العريضة اليانعة وأفانينها الفتية الكثة.
كل ذلك حقيقة، لكنها حقيقة زائفة تنطوي على وهم كبير دسته الطبيعة في طبق طعام فاخر مقدم لشخص يتضور جوعًا!

ثم لا يلبث الإنسان أن يرتحل في اتجاه القوة هاربًا، ومحاولا تحاشي الاصطدام ببقايا الأشجار البالية التي عفا عليها الزمن، وبقايا الجذوع المنتشرة عن يمينه وعن شماله، وخلفه وقدامه، ناظرا إلى تلك الأشجار الضخمة المعمرة منذ سنين، مؤملا نفسه: لم أستفرغ آمالي بعد، ولم يحن وقت النضوب!

المشهد الأخير: [الاستسلام والعدم الحتمي].
ثم تأتي مرحلة الحقيقة الوحيدة
بعد أن شاخت الشجرة، وخرج النبت الصغير المتفرع من جذرها عن طوعها، ولم يعد يأتمر بأمرها، بعد أن وجدها تضيق عليه وتزاحمه وهي في طريقها إلى الزوال، ولم يبق منها إلا ذكرى عند بعض ممن كانوا يستظلون بظلها الوارف يومًا.
تستسلم الشجرة الهرمة لقدرها المحتوم، وتتأهب للرحلة النهائية، عند نفاذ لحظة الاجتثاث ونفاد طاقة المعاناة والمكابدة، بعد أن وصلها قرار الارتحال النهائي.
في كل المراحل السابقة يطلب الجميع الرحيل إما بدافع الحتم أو الجهل أو التجاهل ويرغبون فيه، أما الارتحال الأخير فقطاره يخرج خاليا، ليختار هو من يركبه، ليأخذه معه في رحلة اللاعودة!


إن التغير من نواميس الكون الحتمية، حيث يتحول السكون به إلى حركة، ويتحرك من خلاله العدم نـحو الوجود، وتستحدث به كل سبل التغيير أو تنقطع. كل شيء في المعمورة يتحول بالتغير، إلا الإنسان وبقية الأحياء فإنهم –في نظري - يتحولون بالارتحال.