أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: محطة مترو

  1. #1
    الصورة الرمزية حارس كامل
    أديب
    تاريخ التسجيل : Jan 2013
    الدولة : مصر
    المشاركات : 571
    المواضيع : 66
    الردود : 571
    المعدل اليومي : 0.13

    افتراضي محطة مترو

    وقف على جانب الشارع كالشحاذ، يستجدي سائقي التاكسي. أشار إلى واحدة، اثنتين، ستة.. في كل مرة تقف السيارة أمامه، يطلب من سائقها أن يوصله إلى محطة أحمد حلمي. يسمعها السائق، ينظر إليه بتأفف شديد، يتركه واقفا، وينطلق بسيارته مسرعا دون أن يعيره اهتماما.
    حدق في الساعة، ببجاحه تخرج لسانها وتتحداه.
    دخل الشك إلى قلبه.. ميعاد الأتوبيس الذي سيقله إلى بلدته في الصعيد أوشك. الميعاد التالي بعد أربع وعشرين ساعة. نظر إلى رفيقته الصغيرة، الواقفة جواره بضيق شديد، غمغم:
    - لا يمكن المكوث في القاهرة ساعة واحدة بعد الآن!
    حدث نفسه بعد ذلك قائلا:
    - لابد أن شيئا حدث هناك.. التفت يمنة ويسرة، ثم سأل أحد المارة:
    - هل سمعت بحدوث شيء عند أحمد حلمي؟
    لوح الرجل بيديه، وأجابه وهو يمضي في طريقه دون أن ينظر إليه:
    - لا.
    - إذن ما الذي جرى؟! ربما تكون الحكومة أصدرت قرارا بمنعهم من الذهاب إلى هناك. ربما أصبح السائقون أثرياء.
    هكذا تواردت الهواجس في رأسه دون إجابة شافية.. والساعة لا زالت تتحداه وتتحداه.
    أحدّ بصره تجاه محطة المترو البعيدة، وأمسك ذراع صغيرته، همس إليها:
    - ليس لنا سواها.
    سار تجاهها متحديا الزحام وسائقي التاكسي، وعقارب الساعة. فور وصوله بعد تعب، نزل السلالم مسرعا، توجه ناحية شباك التذاكر، وقطع له تذكرة. جال ببصره بحثا عن الاتجاه المناسب. قرأ اللافتة. تتبع الإشارات، من نفق إلى نفق، سلالم متحركة وأخرى ثابتة، وعقارب الساعة مازالت تفرض عليه قوتها مع كل ثانية تمر. أخيرا وجد الرصيف (اتجاه المرج)، فأطمأن قلبه قليلا.
    وقف على الرصيف منتظرا. طال الوقت، ولم يظهر القطار من النفق المظلم. كتم غضبه، وراح ينظر إلى ساعة المحطة، ممنيا نفسه أن تكون أكثر رحمة من ساعته، أبت إلا أن تخرج لسانها أيضا.
    تململ في وقفته. نظر إلى صغيرته بحيرة وخوف، خرج صوته مبحوحا:
    - حتى القطار يتحداني!
    أوشك أن يبكي.
    بجواره وقف خمسة شباب، يضحكون، يحدقون فيه، ثم تتعالى ضحكاتهم. همس لنفسه بألم:
    - يبدو أنهم يسخرون مني.
    اشتد ّالزحام على الرصيف مع كل دقيقة تمضي، والقطار كأنه أصبح في عداد الأموات. تيقن من وجود مؤامرة تحاك ضده في الخفاء.
    بعد فترة، أضاءت اللمبة الحمراء وسط ظلام النفق، فسحب شهقة عميقة من أنفاسه أخرج بها لهيب الانتظار.
    اندفعت الحشود الواقفة نحو الباب كقذائف فور وقوف القطار، وكقطعة خشب يجرفها شلال هادر وجد نفسه يندفع أمامهم.. بالكاد تشبث بذراع صغيرته. فجأة سكنت الحركة، ليجد نفسه في منتصف العربة الخلفي، مواجها الباب، يقف بصعوبة، مائلا، محشورا بين كتل اللحم التي تضغط عليه من كل ناحية، تعجزه عن الحركة. انخلع الجاكت وسقط من على كتفه. لكنه لم يهتم أو بالأدق عجز عن تحريك يده ليتمكن منه.
    بدت له العربة الكبيرة صغيرة جدا حد أن تضاءل فيها الهواء رويدا رويدا حتى كاد أن يختنق.. وكان البرد قبل نزوله إلى المحطة يوشك أن تتجمد له أطرافه، لكنه الآن يتصبب عرقا كأنه ماء منهمر، وهو عاجز تماما. أحس بيد تلامس بنطاله، وتحتك بالجيب الخلفي، فقال في نفسه ساخرا:
    - فليسرق اللص ما يشاء!
    في محاولة أخيرة، هم ّبتحريك جسده، لينهره صوت لا يدري من أين جاء:
    - حاسب.. قدمي.
    تمتم معتذرا:
    - آسف!
    تحرك القطار، وأخذ يأكل القضبان بعجلاته، وإحساس داخله يؤكد له أنه لا يتحرك. كان يعرف منذ ركوبه أنه لا يفصله عن محطة نزوله سوى محطة واحدة.. لذا رغم الزحام والمعاناة التي هو فيها داهمته الأفكار المخيفة كأشباح مرعبة في ليلة حالكة
    : أنه أبدا لن يصل،
    وإن وصل ستضيع صغيرته وسط الزحام
    ، سيسقط هو تحت الأرجل وتدوسه الأقدام،
    سيقع على القضبان، ويمزقه القطار قطعا.
    زاد من معاناته واشتداد آلامه أولئك الشباب الذين أحاطوا به منذ أول لحظة لركوبه بتعليقاتهم المتحفزة والمتوعدة للجميع عند النزول. حدق في صغيرته مذعورا. تيقن بأنهما سقطا في المصيدة كفأرين.
    في غمرة تفكيره ويأسه، لم يعد يهتم بساعته، ونسي موعد الأتوبيس تماما.. فقط توقف عقله في النجاة بنفسه وبصغيرته.
    وقف القطار في المحطة. لم ينزل أحد، ولم يستطع أحد الصعود. تحرك القطار مرة أخرى، وواصل سيره بسرعته الجنونية.
    لم يبق إلا بضعة دقائق على محطة وصوله، فتجسم الخوف أمام عينيه وحشا مفترسا جائعا ينفرد به في قفص.
    ترهل جسده تماما، وأحس أنه سيغمى عليه، لكنه قاوم بصعوبة خشية السقوط والضياع. تشبث أكثر قوة بذراع صغيرته، وهو يحاول أن يهدئ من فورة الشباب. ضاع صوته ولم يستمعوا إليه. تحركوا ككتلة واحدة بعد أن أمسك كل منهم بيد الآخر فور وقوف القطار.
    فتح الباب، فتدافعت الحشود، وأخذته كصعوده أمامها في نزوله، وهو لا يملك من نفسه شيئا. شعر بأنه سقط وانتهى كل شيء، لكنه بغتة وجد نفسه مرميا على الرصيف يلتقط أنفاسه بصعوبة كغريق. تأكد أنه نجا؛ فرقص قلبه من الفرحة.
    ولما بدأت الحياة تعود إلى رأسه، تذكر صغيرته، لم يجدها بجواره. انفجر قلبه رعبا. لملم بقايا جسده المتهالك، ووقف بصعوبة يبحث عنها. زرع عينيه في كل مكان، حدق بين أمواج البشر الصاعدة والهابطة ولا أثر لها، نظر إلى الأسفل، فحجبت عشرات السيقان عنه الرؤية. صرخ بأعلى صوته:
    - حقيبتي!
    لكن صرخاته ضاعت وسط الزحام، والقطار الذي تحرك.
    القاهرة 12/12/2013
    لاتأسفن علي غدر الزمان لطالما
    رقصت علي جثث الأسد كلاب

  2. #2
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.82

    افتراضي

    قصة عذاب وتصوير متقن لحالة الطحن الذي يعيشها المواطن العادي
    قطار الحياة يحملنا الى المحطة التي يختارها ويرمي بنا بلا استئذان
    سرد متناغم بأسلوب مشوق والتقاط موفق بعين يراعك المتألق
    دمت بكل الخير
    تقديري

  3. #3
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,036
    المواضيع : 131
    الردود : 7036
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    الأستاذ حارس كامل..

    تسلسل مشوق في الحدث قادنا إلى تلك المفاجأة..
    ورد من خلال النص :" فليسرق اللص ما يشاء"..مما قاد ذهن القاريء الى ما هو أبعد من السرقة..
    سرد جميل .
    تقديري.
    وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن

  4. #4
    الصورة الرمزية حارس كامل
    أديب
    تاريخ التسجيل : Jan 2013
    الدولة : مصر
    المشاركات : 571
    المواضيع : 66
    الردود : 571
    المعدل اليومي : 0.13

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلود محمد جمعة مشاهدة المشاركة
    قصة عذاب وتصوير متقن لحالة الطحن الذي يعيشها المواطن العادي
    قطار الحياة يحملنا الى المحطة التي يختارها ويرمي بنا بلا استئذان
    سرد متناغم بأسلوب مشوق والتقاط موفق بعين يراعك المتألق
    دمت بكل الخير
    تقديري
    القديرة المبدعة خلود محمد جمعة
    أثريتني بتعليقك ومرورك الكريم
    تحيتي

  5. #5
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,992
    المواضيع : 293
    الردود : 34992
    المعدل اليومي : 6.27

    افتراضي

    توازى محورا الحركة الداخلي والخارجي في القصة بمهارة سردية زانها التشويق وتضافر خيوط الحبكة باتجاه احتدام انفعالي عالٍ
    الإسهاب في التفصيلوالإطالة في النص لم تفقداه جماله واستقطابيته القارئ بما حملت في قيمة في رسم البيئة
    إلا في مقطع التساؤل حول احتمالية حدوث أمر "عند أحمد حلمي" حيث كفت إشارة صغيرة

    الخاتمة جاءت مباغتة ولافتة
    لم أجد ضرورة لمفردات من العامية مثل بجاحة

    دمت بخير أديبنا
    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  6. #6
    الصورة الرمزية آمال المصري
    عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,825
    المواضيع : 395
    الردود : 23825
    المعدل اليومي : 3.89

    افتراضي

    جذب في السرد والحبكة وجمال الفكرة والطرح
    وكانت المفاجأة التي انتظرتها مع بداية قراءتي لجميلتك وخوفي على فقدان صغيرته التي أعربت في الخاتمة أنها مجرد حقيبة !
    استمتعت بالقراءة لك أديبنا الفاضل فشكرا لك
    تحاياي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  7. #7

  8. #8
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 22,371
    المواضيع : 372
    الردود : 22371
    المعدل اليومي : 4.81

    افتراضي

    من عمق الواقع ومعاناة الإنسان العادي في وطنه
    كانت تلك القصة محكمة الفكرة متقنة الحبك
    بسرد جاذب شائق متقن استطعت أن تأسرنا معك لنتابع الحدث
    ونستمتع بما نقرأ
    دمت مبدعا متألقا. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. رمضان محطة تغير وموطن تنوير
    بواسطة هائل سعيد الصرمي في المنتدى الحِوَارُ المَعْرِفِي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 24-06-2014, 12:53 AM
  2. عيناك محطة ارسال
    بواسطة خليل ابراهيم عليوي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 34
    آخر مشاركة: 24-01-2013, 04:24 AM
  3. عرض وثائقي: محطة بحوث الإنتاج الحيواني بالسرو
    بواسطة محمود سلامة الهايشة في المنتدى الإِعْلامُ والتَّعلِيمُ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-02-2009, 03:11 PM
  4. يوم على متن محطة فضائية
    بواسطة د.مصطفى عطية جمعة في المنتدى أَدَبُ الطِّفْلِ (لأطفالنا نحكي)
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 24-01-2007, 02:49 AM
  5. اليوم : بدء بث محطة تلفزيونية المانية من الكويت بالعربية
    بواسطة ابو نعيم في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 01-03-2005, 08:36 AM