يَمُدُّ اللَّيْلُ رِدَاءَهُ الثَّقِيلَ عَلَى صَدْرِ الدُّنْيَا، كَرَاهِبٍ عَتِيقٍ يَجُرُّ سُبَحَاتِ الصَّمْتِ فَوْقَ طُرُقَاتٍ أَنْهَكَهَا النَّهَارُ.
تَتَدَلَّى مِن نَافِذَاتِ البُيُوتِ أَنْفَاسُ العَابِرِينَ؛ كُلُّ نَفَسٍ قَصِيدَةٌ نَاقِصَةٌ تَبْحَثُ عَنْ شَاعِرِهَا، وَكُلُّ قَلْبٍ نَافِذَةٌ تُطِلُّ عَلَى هَاوِيَةٍ أَوْ نَجْمَةٍ.
تَغْفُو المَدِينَةُ كَمَنْ فَقَدَ ذَاكِرَتَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ تَظَلُّ عُيُونُهُ مُفْتُوحَةً، تَتَرَقَّبُ خُطَى العَابِرِينَ الَّذِينَ يَجُرُّونَ ظِلَالَهُمْ الطَّوِيلَةَ كَمَا تُجَرُّ سَلَاسِلُ الأَسْرَى.
هُنَاكَ، حَيْثُ تَتَقَاطَعُ الأَزِقَّةُ الضَّيِّقَةُ، يُولَدُ الحَنِينُ فِي صُورَةِ رِيحٍ عَابِثَةٍ، تَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهَا رَوَائِحَ الخُبْزِ الطَّازَجِ، وَصَوْتَ بَائِعٍ يُسَاوِمُ الزَّمَنَ عَلَى بَضَاعَتِهِ.
وَحِينَ يَجِيءُ الغَرِيبُ، يَظُنُّ أَنَّ المَدِينَةَ تَبْتَسِمُ، غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ أَرْهَفَ السَّمْعَ، سَيَسْمَعُ أَنِينَ الحِجَارَةِ، وَارْتِعَاشَ المَصَابِيحِ، وَنَشِيجَ الأَرْصِفَةِ الَّتِي تَعِبَتْ مِنْ حَمْلِ خُطُوَاتٍ لَا تَحْفَظُ وَعْدًا.
أَنْتَ، أَيُّهَا السَّائِرُ فِي بُعْدِكَ، هَلْ تُدْرِكُ أَنَّ الكَلِمَاتَ الَّتِي تُلْقِيهَا كَالْحَصَى فِي البِئْرِ تَتَحَوَّلُ فِي الأَعْمَاقِ إِلَى نُجُومٍ سِرِّيَّةٍ؟
هَلْ تَعْرِفُ أَنَّ قَلْبَكَ، وَإِنْ تَظَاهَرَ بِالبُرُودِ، لَيْسَ سِوَى قَنْدِيلٍ مَكْسُورٍ يُحَاوِلُ إِشْعَالَ فَتِيلٍ مِنَ الذَّاكِرَةِ؟
اِمْضِ إِذَنْ، فَاللَّيْلُ لَا يَتَّسِعُ إِلَّا لِمَنْ يَجْرُؤُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى جُدْرَانِهِ وصِيتَهُ: أَنَّ الحَيَاةَ، رَغْمَ خِيَانَاتِهَا، تَظَلُّ قَصِيدَةً بِلَا خَاتِمَةٍ، تُقْرَأُ مَرَّةً، ثُمَّ تُتْرَكُ مَفْتُوحَةً إِلَى الأَبَدِ.


رد مع اقتباس
