مُنى
كنت قد تجاوزت السابعةَ بقليل حين وُلد "عصام" أخي ، وأمّنا مريضة ، وكان عُمر أختنا " منى" حوالى خمس سنين . أذكر حينَ كنّا نذهبُ كلَّ مساءٍ ، قُبيلَ المغرب ، إلى بُستان " أبو مُراد " المواجه لبيتنا . كانت تسـير إلى جانبي ممسكةً بطرف بيجامتي ، وأنا أحمل الوعاءَ الألمنيوم الصـغير الذي يتّســع للتر واحد من الحليب فنخـوض في التراب الرطب وتملأ أنفينا رائحةُ البقر والشجر !! وكانت تلتصق بي خائفة كلّما خــارت بقرة في الزريبة فأمسك بها متظاهـراً بالشـجاعة وعدم الخوف ! حتى يظهر لنـا " أبو مراد " فيملأ لنـا الوعاء ونعود به إلى أمّي مُسرعَين فتملأ منه الرضّاعة ، وتُلقمها " عصام " . فيما بعد ، وبعـد ســنين طويلة ، كانـت أمّي تمزح مع عصام بقولها : " أنا لستُ أمَكَ ، أمّك بقرةُ أبي مُراد !! " . في تلك الفترة من طفولتنا كنت أخرج إلى الشارع وأجمع أغطيـةَ زجاجـات " الكازوز " وعيدان "البوظـة " المرميّة في الأرض وأعُـود بها فَرِحاً إلى أمّي ، فتغسلها وتنشّفها ، ثم تـلفّ على أحد الأغطية قطعـة قمـاش بيضـاءَ وترسم عليها العينين والفم والأنف لترسمَ وجهاً ، ثم تربط إليه عودين متصالبين لتشكل اليدين والرجلين ، وتصنعَ دميةً لمنى .. وكنـت أتابعها بزهوّ كبيرٍ وهي تلعب بدميتها وتكلّمها وكأنني أنا الذي صنعتها لها !!
وفي ليلة " المَحيا " – ليلة النصف من شعبان – أحضر لنا أبي مجموعة من الألعاب النارية على شكل عيدانٍ تُشعل من طرفها فتتطاير منها النار في كل اتجاه كأنها نجوم الليل .. وخُيّل إليّ وأنا أرى النجوم تتطاير حول مركـز النار راسمةً طَوْقاً من النجوم أنّ هذه النجومَ لو خرجت من شعر منى سـيصبح وجهُها منيراً يُحيط به النور ؛ كمريم العذراء – التي رأيتُ صورتها يوماً معلّقةً إلى الجدار في بيت جارتنا " أمّ غسّان " ! فما كان مني إلاّ أن رفعتُ شعرها من الخلـف فوق رأسها ودفعتُ فيه " عُودَ نجوم الليل " المشتعل ! فاشتعل شعرها بلمح البصر ، فهرعتْ إلى البيت تصرخ خوفاً ! وكانت أمي تجلس أمامَ الحَوضِ تغسل ملابسَنا ، فهبّتْ إليها حاملةً ما كانَ بيديها بمائه وصـابونه ولفّت به رأسها فأطفأته ! ولا زلتُ أذكر من تلك الليلة ألَمَيْن اثنين :ألَمَ حزام أبي الجلْـديّ الذي نالَ من جلدي تلك الليلة ! وألمَ حزني على شَعْر مُنى الكستنائيّ الطويل – الذي طالما أحببتُه – وقد غـدا قصيراً جدّاً وقبيحاً ، بعد أن قصّت أمي ما احترق منه بمقصّ الخياطة !!
في صباح أحد الأعياد ، ولم أكن قد تجاوزتُ العاشرة ، أردتُ أن أصطحبها إلى ساحة العيد ! فاسترقنا غفلة من أمي وهربنا! أخذتها من يدها وهبطنا السلم من بيت خالتي في قلب حيّ "الصّليبة " باللاذقية ثم توجّهنا إلى ساحة العيد العامرة أمامَ وحـولَ " قوس النصر " وهناك أكلنا " الفول المســلوق "
و " الترمس " وركبنا المراجيحَ بأنواعها ، وتفرّجنا على مُرقّصي القرود ، وعلى السّحَرة .. ثمّ سألتُها بحماسة :
- هل آخذك إلى سينما حقيقيّة ؟
فنظرت إليّ مستغربة ، وقالت :
- " وأينَ هذه " ؟
فجذبتها من يدها ، وقلت لها :
- أنا أعرف ، امشي ...
مشينا باتجاه الغرب حتى وصلنا إلى الشارع الرئيسيّ ، ثم انحرفنا شمالاً ومشينا ومشينا حتى وصلنا ساحةَ " أوغاريت " كنتُ أتخيّلُ مكاناً فيه " سينمات " كثيرة ، وكنت أريد أن أصل بها إلى هناك ! انحرفت بها باتّجاه الغرب مرة أخرى وأنا أنظر إلى أعلى في كلّ اتّجاه أبحثُ عن الإعلانات الكهربائيّة للسينمات التي في خيالي ، ولكني لم أرها ! ومشيت بها أجرّها من يدها ، وهي مستسلمة لخطاي واثقة بي ! حتـى أوصلتنا أقدامُ الطفولة إلى شارع فيه زحام شديد من الناس والأصوات والمحلات والروائح من كل نوع ولون ! وكم فرحتُ حين وجدتُنا أمام باب سينما كبيرة والناس يتدافعون في الدخول إليها ... وكان أمام الباب رجل يجمع من أيادي الأطفال والأولاد والكبار ما يستطيع مـن النقود ، ثم يسمح لهم بالدخول ..فأخرجت من جيبِ بنطالي كل ما تبقّى فيه من عيديّتي وعيديّة منى ودفعتُ بها إلى الرجل وأنا أقول له لاهثاً :
- أنا وأختي ..
فأخذها مني ودفعني أنا ومنى إلى الداخل : " يا الله .. فوت " . كانت القاعة مظلمة جداً ، ومزدحمة جداً ، ولم نستطع أن نرى طريقنا ولا أن نعثر علــى مقعد نجلس عليه ! ولم يكن ذلك مهماً فالمهم أن نرى ونسمعَ الشاشة الضخمة العملاقة ! وأصـوات الممثليـن والسـيوف والخيول وأن نسمع التصفيق والصَّفير من الجمهور ! أن نعيش " جوّ " السينما الحقيقيّة لا السينما الخرساء التي في ساحة العيد ! كان في ذلك متعة وأيّ متعة ! ولكنّ متعة ذلك اليوم كانت نهايتها مؤلمة !!
حين انتهى العرض ، أضيئت الأنوار فأخرجونا من باب كبير غير الباب الذي أدخلنا منه ! كان الناس يخرجون كالقطيع الهائج يدفع بعضهم بعضاً ، حتى كدنا– أنا ومنى– أن نختنق وسط الزحام ! وفجـأة وجدنا نفسَيْنا في شارع فرعيّ لا نعرف له اتجاهاً ، بعيد ، رهيب ، له طعم غريب ، وريح غريبـة إنه الضــياع ، لقد ضعنا أنا وأختي !! وبدأت السماء تُمطر ! لم يُفارقني الشعورُ بيديها البضّتين تتشبثان بذراعي ، وأنا أجرّها وأجرّ نفســي ، وهـي تبكي : - " بدّي ماما " ! والمطر ينهمر علينا بغزارة ! كنت كلما سرت في طريق أحسب أن نهايته بيتُ خالتي! فنسرع ؛ حتى إذا وصلنا إلى نهايته وجدنا نفسينا في طريقٍ آخرَ ، أكثرَ غربة !! كنت أقول لها ونحن نخوض في الماء تائهين :
- " عندما نرى الكنيسةَ المعلقةَ نكون وصلنا عند بيت خالتي " !
و " الكنيسة المعلقة " هي التسمية المحلية لقوس النصر الروماني الواقع وسط حي الصليبة . وبدليل لا أعرف له اسماً غير رعاية الله وصلنا إليه ، ثم وصلنا إلى بيت خالتي لنجد أن العيد عندهم قد تحوّل إلى بكاء ولوعة حين تأخرنـا في العودة وتوقّعوا أننا ضعنا !! وتلقّتنا أمي تضمّنا إليها وتقبّلنا وهي تنزع عنا ملابسنا الغارقة في الماء !
ومضى بنا قطارُ العمر ، ولم تُغادر مُنى سطراً من سطور حياتي ! ولم أغادر .. في كلّ مفردةٍ من مفردات عمري حرفٌ منها ، وكنتُ في حياتها كذلك ، حتى ذبحتني ! ماتت في يومٍ أبت فيه الشمسُ أن تطلع ، لولا أمرُ خالقها ! والطيورُ اعتصمت في أعشاشها لا تُريد مغادرتها ، لولا أفراخها ! ماتت في الخامسة والثلاثين بعيدةً عنّي بُعدَ الغريب عن وطنه ! ماتت وهي تضع ابنها " محمد " بعد أخواته الأربـع ، فما استفاقت من مخدّر العمليّة لترى مولودها الذكر الذي طالما حلمتْ به !!
أنا لم أعد أراها ...
حُرمتُ بموتها حبّاً كان يفيض عليّ من عينيها ، ومن قَسَمات وجهها، ومن كلماتها ورائحتها، حين تفتح الباب لتستقبلني، وحين تُعانقني ، وحين تكلّمني ، وحينَ كنّا نتناجى بالذكريات ..
رحيل منى أفقدني شيئاً مهمّاً لروحي ، ولقلبي ، ولطمأنينتي.. شيئاً لا أعرف له كُنهاً راحَ معها !!
مـن يوم ماتت منى أحببتُ الموت لألقاها ، وأتمنّاه لأراها ! أتمنّاه في كلّ لحظة أخلو بها مع نفسي ودموعي وذكراها ؛ بعيداً عن أعين أولادي وزوجتي ! " منى " حين يتوقف نبض القلب في صدري وحينها فقط ، أنساها !



رد مع اقتباس
