.. ولكنه حي

عندما فاجأتها الآلام وجدت يمناها تقبض عليه بشدة لا إراديا .. وحيدة هي في الخلاء تعتصرها آلام رهيبة ، أفلت نحيبها رغما عنها وسط دموعها المنهمرة ، عندما تبينت ما تقبض عليه يداها ابتسمت بمرارة شاخصة ببصرها إلى السماء .
ازداد تشبثها به وازدادت دموعها غزارة عندما تذكرت قوله الشريف ( في آخر هذا الزمان القابض على دينه كالقابض على جمرة من نار ) ، هزت رأسها محاولة طرد ما يجول بخاطرها دون جدوى ، وهل يمكنها بهزة رأس أن تنسى ؟! لقد ذبحوا أباها أمام عينيها بعد أن ماتت أمها وأخوها تحت الأنقاض .
لم تكن وحدها حين اقتادوها ؛ كن آلافا مؤلفة ، وضعوهن في معسكر لذبحهن .. أطلقوا عليهن وحوشهم المدربة ليذبحوهن بطريقتهم الخاصة ، كل يوم ، و أكثر من مرة .
عندما هموا بذبحها أول مرة قاومتهم بشراسة ، لكنهم كانوا الأقوى .. لم تعد تدري بشيء .. وجدت نفسها تصرخ بأعلى صوتها ( وا معتصماه .. وا معتصماه ) ولم يأت المعتصم ولا جنوده ، ومعهم الحق أيهم تعني ؟ فقد كثر معتصمو هذا الزمان ، معتصمو القصور والأموال والمنتجعات .. لم تكن تدري أن لكل زمان معتصميه .
ذبحوها ، وذبحوها ، وذبحوها ، وشمر المعتصمون عن سواعدهم ليسألوا هل الذبح شرعي ؟ فيباركونه أم غير شرعي فيشجبونه ويستنكرونه .. ثم عادوا إلى ولائمهم وعوالمهم المثيرة فقد جاهدوا الجهاد الأكبر !.
زادت وطأة آلامها .. تحرك الجنين بشدة في أحشائها .. ضربت الأرض بقبضتها ضربات متلاحقة وكأنها توجهها إلى جزاريها المتوحشين الذين استمروا في ذبحها .. لم يتركوها إلا في شهرها الثامن كي لا تستطيع إجهاضا لثمرة شرهم .
في شهورهن الأولى لم يجدن من يفتيهن في أمرهن .. حلال إجهاضهن أم حرام ؟ كان علماء الدين مشغولين في شيء أهم .. نقاب المرأة فرض أم لا ؟ لم يفتهن أحدهم في أمرهن هذا !!
ذاك القادم ما كنهه ؟ من هو .. ابن من هو في هؤلاء ؟ ابن لمائة رجل .. مائتين ؟ من فيهن تستطيع إرضاعه .. بل النظر إليه .. أم مسلمة لابن من ؟ ابن الكفر والإلحاد .. هل تنجب المسلمة من الكفرة ؟ هل ينجب الإيمان من الضلال ؟ هل ينجب النور من الظلام ؟ وا معتصماه .. وما من مجيب .
ازدادت قبضتها على المصحف مع تصاعد آلام المخاض .. أصابها دوار .. غامت الدنيا في عينيها ، اختلطت الأمور في سمعها وبصرها ، باتت تسمع وترى أشياء عجيبة .. فوارس في مواكب متتالية يرفعون رايات الحق من خلفهن نساء صالحات يلهثن من أجل الجهاد .. غامت الرؤيا في عينيها لحظات ثم رأت رجالا يقبلن الأيادي وراء نساء كاسيات عاريات .. فزعت واستعاذت بالله .. عادت ترى الفوارس مرة أخرى وتسمع صيحاتهم وتكبيراتهم .. ظهر البشر على وجهها وابتسمت .. تحركت سبابتها اليمنى .. تمتمت شفتاها بالشهادة ، وغابت .. غابت بعد أن خلفته تحتها .. قبيح كريه بشع .. ولكنه حي .
[line]
يناير 1993 في خضم أحداث البوسنة والهرسك
مجلة الأسرة عدد (790 ) 17/1/1996 سلطنة عُمان
جريدة القبس عدد (10380 )11/5/2002 الكويت