ولجت خيوط النّور سديم العتمة، وأحكمت سيطرتها، فانبثق النّهار معلنا بداية يوم جديد ..
حينذاك أدركت " أمل" أنّها لم تغمض جفنا، وأنّ هذا الجسد قد أوهنه ما فاض من ذاكرته طيلة اللّيل، إثر حديث في الأمس مع صديقاتها وأزواجهنّ، الذين اعتادوا الاجتماع معا مرّة كلّ شهر في أحد المطاعم الهادئة؛ لمناقشة مواضيع حياتيّة وأدبيّة، ولإعطاء الذات فرصة للرّاحة من عناء العمل، وللاطّلاع على آخر الإصدارات العلميّة والأدبيّة.
كان موضوع الحديث هذا اللقاء حول الأدب النّسائيّ والإبداع النسائيّ.
فمن رأي: أنّ المرأة باستطاعتها أن تكون مبدعة كما الرّجل؛ لأنّها لا تقل ذكاءً وفهماً عنه، إلا أنَّ هناكَ عثراتٍ تقف في طريقها تحول دون إبداعها، وأهمّها عدم امتلاكها لوقتها بسبب الاهتمام بالأولاد!
أثارت الفكرة جدلاً، وعَلا صَخبٌ لوّثَ هدوءَ المكان، وشدّدت "أم أحمد" في حديثها على أن معظم النّساء المبدعات يهملن أولادهن، أو لم ينجبن الأولاد، ولربما لم يتزوجن . فالأطفال يسلبون الأمانيّ والطّموحات الذاتيّة، وهي تؤمن أنّ من أرادت أن تكون أديبة أو عالمة، فلتدع الإنجاب !
خالفتها الرأيَ بعضُ النّساء، واتّفق معظم الرّجال على أنّ هذا الرأي هو السَّديد، ولكنّ قلّة منهم قالوا: إنَّ المرأة تستطيع الإبداع إذا أستغلّت وقتها، وأعطت زوجها وأولادها ما يلزم.. فلربّما وجدت وقتا لاستغلال مواهبها وذكائها في الكتابة والإبداع وغيرها، ولكنّ الجميع وضعوا الأولاد في خانات إعاقة تقدّم المرأة، واعتبروهم حجر عَثرة في طريق الإنتاج!
أما "سعيد" الذي اعتاد أن يبدي آراء خالها الجميع تنمّ عن صفات، ومشاعر سامية، ندر وجودها عند رجال كثر في الشّرق- وهو الذي تزوج من مطلّقة لها ولدان
اعتبرهما ولديه- فقد فاجأ الجميع بتذَمُّرِه من وجود ولديّ زوجته في حياته، حيث اعترف أنَّه احتضنهما في البداية عوض عقمه، الذي حرمه الأبّوة، ولكنّه يعترف الآن أنَّ هذين الولدين سلبا منه معظم ماله ووقته، وحدّدا تفكيره، وأنّ زوجته التي حلمت أن تصبح أديبة، لم تستطع تحقيق ذلك بسببهما!
حاولت " أمل" إقناع الجميع بخطأ أفكارهم، متسلّحة بالآية الكريمة: " المال والبنون زينة الحياة الدّنيا" وليسوا عثراتِ الدنيا، ولكن دون جدوى.. فقد نمت أغصان أفكارِ معظمهم فوق جذع التذمّر، وها هي ذي ثمار هذا التذمّر تعرض أثناء الحديث، ويثنى على جودتها، مع الاتّفاق أنّ عقوق الأبناء، وابتزاز أهليهم مادياً وعاطفياً وحياتياً، قد أوصل الأهل إلى محطة التنّكر لأهميّة الأبناء في العائلة.
كان هذا الحديث بمثابة مخرز ثقب غُرفات ذاكرة " أمل" التي بنت كلّ امالها وسعادتها على وجود طفل في حياتها، واعترتها دهشة لسماع تذمّرات من واقع اعتبرته جَنينَ السَّعادة، وفاضت من ثقوب الذاكرة مخزونات كثيرة، كانت تتدلّى منها خيوط علقت بها كرات قَذَفها البعض أثناء أحاديث مشابهة، إلّا أنّ "أمل" اعتادت رفع هذه الخيوط، ووضعها في صناديق " اللاوعي" والمنسيّات من الأمور، ولكن بعد هذا اللقاء اختلط " الوعي" "باللاوعي" وفاض المخزون، ناشِراً محتوياته، ليعرضها أمام ناظريّ "أمل" شريطاً مصوّراً لمحطّات وزيارات الأطباء، بحثا عن حلّ للمشكلة، فمن مؤمّل، ومن محبط، وبين مطرقة الأمل وسندان الإحباط، ضاعت سنوات كثيرة من العمر دافنةً معها الكثير من الأفكار والتخيّلات حول وهميّة وواقعيّة الأمومة. وها هي ذي تسمع نقائض وترهات!
خرجت أمل من البيت لتريح ذاكرتها وأعصابها. ضوضاء المكان تختلط وضوضاءَ أفكارها. المكان يعجّ بالنّاس، لفت نظرها رهط يقف في طابور أمام بائع للعصائر لإطفاء نار ظمئه، فأثار المشهد عطش أمومتها.. بدأت تصهل ذاك الصهيل الذي اعتادت عليه ردحا من الزمن. وعندما تصهل أمومتها تمرّدا على عطشها وجوعها، ونافخة أوداج مشاعرها، اعتادت إرواءها وعلفها بجرعات من التّخدير وكبت المشاعر؛ علّها تخفت من صوتها وتهدّئ من روعها.. لكنها لم تنجح دائما. فأحيانا كانت تغلبها، وتجمح وترفس بعشوائيّة شرايين كيانها، فيزداد صهيلها حدّة مستهزئة بتلك المسكّنات، ويزداد حنقها وتمرّدها، طالبة الارتواء والكبح لا التّعطيش.. ونظراً لعجز "أمل" عن إروائها، كانت تصرخ بصمت طالبة النّجدة فلا تجد سوى الله ملجأ، فتأتي كلماته قطرات من ندى ترطّب جفاف العاطفة المسبّب للجموح، ولا تفتأ كذلك حتّى تبلّله فيهدأ الصّهيل وتحلّ السّكينة، والآن بعد قذفها بحجارة حديث مجموعة الأصدقاء، وأثناء مشاهدتها لمن يروون عطشهم، فإنّها تحاول الخروج من عقال السّكينة، وتحسّ "أمل" بدفق من المشاعر ينقر خريره كلّ جنبات الجسم والرّوح، لكنّها لن تسمح هذه المرّة لهذا الدّفق أن يسبّب ثغرات وفجوات كثيرة، تتدفّق عبرها سيول هذه المشاعر والمعاناة، فتقرّر العودة إلى بيتها لتضع حدّا لكل ذلك ...



رد مع اقتباس

