بدأت تلك الخلايا في العمل , وأخذت تنشر الدفء في جسدها المنهك ؛ بعد أن كاد برد الانتظار المؤلم يَفْتك بها , ورجفة الخوف من المجهول الذي يشع في داخلها بدأ في التلاشي؛ لينبئها بأن شروق شمس حياتها قد بدأ في البزوغ , وأن ليل الوحدة سوف ينجلي وأن الربيع قد بدأت طلائعه في الظهور . (حياة متأخرة دهراً )
هي تعلم أن سرقة بعض من لحظات الفرح في هذا العمر لن تجدي . ربما تكون عقيمة وغير ذات نفع ولكنها لن تعود إلى ذلك الليل القاتل . شعرت بنفاذ تلك النظرات تخترق ظهرها كسهام تُدمي وتجْرح , والأقاويل همساً تخترق جدار آذنها لِتُصيبها في صميم فؤادها : ( لا بد لها من الرضا والقبول فوضعها لا يسمح بغير ذلك ) .
اشتد الهمس وحرارة الأحرف والكلمات تشتد طعناً : انظروا علامات السنين بدأت تختم على ملامحها وجسدها بختم كل من يمر بتلك المرحلة العمرية , وبدأ شعرها يُغزى من قِبل تلك الشعيرات البيضاء في مقدمة رأسها . في محاولة مستميتة منها بصبغها أو وضع الحناء التي لا تلبث بعد فترة أن تُعيد الكرّة كلما زحفت الصبغة مدبرة لمدارة آثار السنون التي أخذت من شبابها وتألقها الكثير .
دلفت إلى حجرتها وأغلقت الباب وارتكزت بظهرها عليه ممسكة قلبها بيدها حتى لا يُسمع وجيبه ؛ فيظن الظانون ظن السوء أنها أصوات الفرح والسرور قد بدأت . فتبدأ الغمزات واللمزات حتى تغدو لعنات تنهال عليها , وجمرات ملتهبة تسقط على رأسها وجسدها فيُصبح كمصفاة ممتلئة بثقوب مؤلمة ( كل ذلك من أجل كلمة تتكون من ثلاثة أحرف [نعم]) طرفت بعينها داخل حجرتها فوقع نظرها على ذلك الإطار الزجاجي بداخله أحرف رُصت لكلمات تُثبت تفوقها . هذا التفوق الذي صرفت عليه سنين من عمرها . رفضت في سبيل تحقيقه الكثير . نحتت لاسمها على جدران الحياة , إطارات مذْهبة تلمع وتبرق . كم تمنت في هذه اللحظة أن تطمس معالم تلك الإطارات . أرادت أن توقف عجلات الزمن . أن يُصيبها العطْل . ترجع العجلة إلى الوراء . تمنت أن تكون ( أسطورة آلة الزمن ) حقيقة .
أفاقت على واقع قبولها من شاب يصغرها عمراً . ويصغرها بمستواه التعليمي والثقافي , والوظيفيّ .... !! شاب من الممكن أن يكون ابنها . هو يتيم أو في حكم اليتيم ( لقيط) عاش حياته في داراً للأيتام بعد أن وجدوه بجانب صندوق النفايات وعلى صرخاته الباحثة عن الصدر الدافئ الحنون تلقفته الأيدي في ذلك الفجر الذي قد بدأ يشق ثوب الليل عنه , لم يعرف للحياة الأسرية طعم . وبعد اشتداد عوده بدأ يبحث عن زوجة لم يشترط العمر جُلّ ما يبحث عنه هو الأخلاق وبيت متكامل يملك مفتاح داره وزمام الأمر به .
تذكرت أن للناس أعينا وألسنا , وسوف يضعونها على نُصب المذبح أضحية لمتعتهم القاتلة سوف ( يسنون ) تلك الألسن قبل البدء في مراسيم الذبح ( على سيرتها) .
سيكونون أول المهنئين وأول الملتهمين لجسدها . ابتسامة صفراء تبرز من خلالها أنياب تفوق أنياب ( دراكولا ) وحشية وطلباً للدماء .
تراجعت فزعة . خفق قلبها بقوة وضخ الدماء سريعاً إلى رأسها الذي كاد في ساعته أن ينفجر ( وتُصاب بجلطة تؤدي بحياتها )
فتحت باب غرفتها وركضت أمام ذهول الموجودين غير آبهة بما يقال وكالمجنونة أسرعت إلى ذلك الباب الفاصل وصرخت بأعلى صوتها بقوة تلك الدماء المندفعة من قلبها الذي يصرخ ألماً .... : لن أتزوج