اجزم قريبة مني
إلى أبي ...
بعينيهِ شوقُ البلاد
واحتراق الانتظار
وأحلام المنفى

وائل راشد

في داخلهِ مقبرةٌ لا نهائيةٌ لملايينِ المفارقاتِ المؤلمة، آلامٌ ودمارٌ وانتظار ما قد لا يأتي. لا امرأةٌ كانتْ تأتي في يقظتهِ ولا في أحلامهِ. بُعد المسافات، بُعد الأهل، فالطريقُ إلى حيفا طويلٌ طويلْ، ولن يمّتدَ بهِِ الأجل على كلِ حال، سيموتُ قبلَ العودةِ إلى بيتهِ الطيني، سيموتُ بعيداً عن الأرضِ التي شهدتهُ صغيراً.. الأرضِ التي ربتّهُ. رجلٌ اعتصرَ في قلبهِ أنهاراً من الألم، وصوراً من الماضي صارخةً بالأسى والتعب. ما كلَّ ولا ملَّ مِنَ الانتظارِ، من الاحتضارِ بعيداً عن بيتهِ الريفي.
كم هي صعبة ٌأن تتحولَ بين عشيةٍ وضحاها إلى لاجئ!!.
أذكرهُ جالساً أمام الدارِ على كرسيهِ الخشبي الصغير، ممسكاً بين أصابعهِ "سيجارتهِ" التي كانتْ رفيقتهُ في رحلةٍ طويلةٍ امتدتْ بهِِ من البلادِ إلى المنفى إلى غرفةِ الإنعاش، واستقرتْ بهِِ في قبرهِ الواسعِ المريح. يحكي لجارنا كيفَ أَنهم وضعوا للبقراتِ علفها ليومين، وكيفَ أنهم خبئوا محصولَ القمحِ والشعير، وأخذوا معهم مفاتيحَ الدارِ واثقينَ من عودةٍ ستكونُ قريبة. لم ترهقهُ السنون، ولا بُعّد الأولادِ وهجرتهم، ولا متاعبَ الحياةِ و بساطةُ جارنا العزيز، بقدرِ ما أرهقتهُ كَلمة ُلاجئ.
موجةٌ أخرى من سعالٍ أجشٍ خانقٍ تبتلعُ أنفاسَهُ، وتعتصرُ عينيهِ دمعاً، ويصّفرُ لها وجهَهُ لدرجةِ الاختناق. وبعدَ أن تنتهيَ نوبة ُالسعال، كان ينظرُ إلى جارنا العزيز بعينيهِ الواسعتين اللامعتين قائلاً: "يا أبو أكرم أكادُ أراها أمامَ عيّني. هناكَ الجامعُ، وهناكَ بيتُ أبي محمود، تلكَ الشجرةُ زرعتها أم العبد، ذاك المقهى حيث كان أبي يجلسُ كلُ يوم، وهذا هو الطريقُ إلى حيفا. أراها أمامي يا أبو أكرم أحسُ بها قريبةً مني". وكمن لا يريدُ تصديقَ كل ما جرى له، يلتفتُ إلى صديقهِ الوحيد مُبعداً عنه سيلَ الأفكارِ المتشائمة: "صّب الشاي يا جار سنعود، والله سنعود، المسألة مسألة وقت لكننا سنعود".
كان والدي كلما تذكرَ بلدتهُ "اجزم" وطريقُ حيفا لمعتْ عيناهُ كأنهما نجمانِ في سماء.
في غرفةِ الإنعاشِ كان ممدداً على سريرهِ يصارعُ الوقتَ والمرضَ والموت. لم أستطعْ أن أخففَ عنهُ آلامهُ التي بدتْ لا نهايةَ لها. في تلكَ الغرفةِ صاحبة الأجهزةِ الحديثةِ المعطلة، و التي لم يكن يتحركُ فيها سوى ذلك "السيروم" المتراكض نقطةً إثر نقطةٍ، مطمئناً نفسي ولو قليلاً بأن هذا الجسد المحطم مازال على قيد الحياة.
هبتْ نسمةٌ رقيقةٌ إلى غرفةِ الإنعاشِ من خلال النافذةِ المفتوحةِ، جعلتهُ يشعرُ بارتياحٍ واضح. راحتْ عيناهُ الزرقاوان اللامعتان تحدقان مجدداً في السماء. في تلك اللحظةِ رأى والدي سرباً من العصافيرُ تطيرُ مبتعدةً، وانكشفتْ له سماء رأى فيها والدهُ جالساً على كرسّي الخيزران في مقهى القرية. رأى شيخهُ مَنْ حفظه القرآن وعلمه الكتابة والقراءة، رأى بيتهُ والبقرات التي قد تكون الآن جائعةً بعد غيبةِ يومين عنها. رأى أمهُ وكل الوجوهِ التي أَحبها، رأى طريقَ حيفا، وجارهُ العزيز"أبو أكرم"، ثم أغمضَ عينيهِ واستسلمَ لنومٍ عميق. نظرتُ إلى والدي الملقى أمامي على سريره البارد، فأدركتُ حينها أنه الآن فقط تخلصَ من عذاباتهِ اليومية، ومن سعالهِ الحاد، ومن وجعِ الصدرِ والرجلين، ومن آلامِ البُعاد عن الأرضِ، وهجرةَ الأولاد. . رحلَ موقناً أن اجزم صارتْ قريبةٌ مني.. إنها قريبةٌ مني.

11 /1/2000