منمنمات على جرح وطن
بقلم : سمير خضر خليفة
غالية

عشق النوارس لرحابة الفضاءات ، رائحة ملح البحر، توقف إطلاق النار القصير على محور المخيم، صورُ آلام وأحزان تزاحمت في ذاكرة هذا اللاجئ فلبى نداء البحر .
بين القصور الرملية التي شيدها أبناؤه على الشاطئ،استلقى قبالة زوجته المنهكة في إعداد الطعام ، منشغلاً عن لهو أولاده ، متأملاً جبروت الشمس المنكسر على حافة الأزرق البعيد.
وغير مبال بزورقهم الحربي الذي يدنس قدسية هذا المشهد. صوت انفجارٍ استباح المكان. فتوقف الزمن. تسابقت عدسات المصورين لتسجل سبقاً إخباريا، فلم تجد أمامها إلا فتاة مذهولة غير آبهة بهم تتراكض متعثرة على الرمال توزع أحزانها ودموعها على أشلاء عائلتها المتناثرة. جثت قرب والدها أمسكت برأسه محاولة رفعه عالياً ، متجاهلة الغدر القادم من البحر، لتطل علينا من الشاشة نافذة عجزنا صارخة تنادي أباها الغافي . شاهدةعلى صمت العار فينا .

فارس
عاد فارس ومن خلفه صبية الحي إلى منزله مسرعاً يلوح لأمه بصحيفة أجنبية، اختارت صورته لصفحتها الأولى وهو يقف متحدياً "دبابة الميركافا" بقبضةٍعاريةٍ إلا من حجر. ناولها لأمه، التي أدمنت الانتظار . ابتسمت له محاولة أن تغالب الأسى الذي ما فارق محياها يوماً. قبلته على جبينه، وابتهلت بقلب كسير (الله يحميك .. الله يحميكوا.. يمه..).
أخذ جفن عينها الأيسر يرتعش دونما تفسير، عندما وقعت عيناها على الصورة معلقة على الجدار وقد كتب عليها بخط يده (الشهيد البطل فارس عودة) وانتبهت لرحيله المبكر هذا الصباح. ساعة مضت أيقنت بعدها أن ولدها لم يذهب إلى المدرسة. عندما أعاد لها أحد رفاقه الحقيبة .
وقفت أمام الدار تنتظر فارسها، فعاد ولكن هذه المرة محمولاً على الأكف. شقت طريقها بين الجموع، ضمته لصدرها وقبلته. وقبل لحظة الوداع الأخيرة انحنت ملتقطة حجراً ووضعته بكفه وقبلتها .فعلا التكبير والزغاريد.
أمام جبروت هذه الأم ارتبك المراسل ،وغصت الكلمات في حلقه. وحرقة الدمع بعينيه ،فهرب ليلحق بركب المشيعين وصوت الأم لا يبرحُ أذنيه .
( الأبطال يولدون مرتين ... الأبطال يولدون مرتين.)

يوم لم تصدقوا الحمار

على مشارف القرية، عند مفترق طريق الطاحونة، ونبع الماء، طريقه اليومي. توقف الحمار رافضاً المتابعة إلى خارج القرية، حثه صاحبه محاولاً سحبه من رسنه.ضربه بالعصا،حرن الحمار وبرك في مكانه، حاول بعضهم مساعدته لكن دون جدوى، فاضطر صاحبه لحمل طفله سميح مع صرة الملابس التي كانت معه على ظهر الحمار مهدداً : سأعود ولي حساباً معك . قالها ومضى مع أهل قريته الفارين خوفاً على أطفالهم ونسائهم من المجازر التي وصلتهم أخبارها من القرى المجاورة. بعد أن نفذت ذخائرهم، وصدقوا وعود قيادة الجيوش العربية التي ستعيدهم لديارهم بعد عشرة أيام على الأكثر كما ادعت . والآن بعد مضي أكثر من خمسين عاماً، جلس سميح مع أصدقائه كعادته على شفا الوادي الفاصل بين وطنه السليب مسقط رأسه، وبلد لجوئه يكحل عينيه برؤية بلده ويتنسم هواها على أمل العودة . قال أحدهم لا أدري كيف صدق أهلنا واقتنعوا بالرحيل (ولك الحمار ما بيصدق حكامنا ) .علق سميح ضاحكاً مخفياً الدمعة التي تلمع في مقلته : لا تظلم الحمار فقد قالها منذ أكثر من خمسين عام ولم يصدقوه .