أحدث المشاركات
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 24

الموضوع: ذات خريف

  1. #1
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,847
    المواضيع : 195
    الردود : 9847
    المعدل اليومي : 1.67

    افتراضي ذات خريف


    ذات خريف
    تتناثر أوراق شجرة التّين العملاقة، القابعة منذ سنين في باحة الدّار، وصاحب البيت يجلس على كرسيّ هزّاز، تراقب عيناه الأوراق في حركتها، مسترجعا كلام زوجه التي تلحّ عليه كلّ خريف أن يقطع هذه الشّجرة؛ لأنّها لم تعد قادرة على تنظيف السّاحة من حبّات التّين، المتساقطة صيفا، وتستضيف أنواعا عديدة من الحشرات، وخريفا عندما تجري خلف الأوراق، والرّياح تنقلها من زاوية إلى أخرى...
    جرّته حبال الذّاكرة إلى أيّام طفولته، حين كانت والدته تجمع حبّات التين؛ لتجفيفها على سطح البيت، بعد تغطيته بالقشّ، وتخاف عليه من الوقوع، حين يعتلي الجذع لقطف الحبّات المختبئة بين أوراق الأغصان العالية، بعدما نجت من مناقير العصافير، فتظلّ واقفة بقلق حتّى ينزل.
    كان يساعدها أيضا بنشر الحبّات، فيعتلي السّطح على السّلّم الخشبيّ الذي تآكلت أجزاء كثيرة من خشباته؛ كي يحظى برضاها...
    وهو في غمرة صعوده سلّم الذّكرى، وإذ بزوجه تخاطبه بصوت عالِ: إلى متى ستبقى هذه التّينة مسبّبة لنا المشاكل، ومرهقة إيّاي؟ فأنا لم أعد شابّة يا أبا خالد.
    هزّ برأسه، وضاعفت الهزّة من حركة كرسيّه، وأجابها: اليوم سترتاحين منها. فلكلّ شيء نهاية، ولكلّ المخلوقات خريف.
    نزل إلى ساحة الدّار، تأمّل التّينة بتمعّن، ثمّ أمسك بغصن وكسره قبل أن يضع المنشار الكهربائيّ فوق أحد الفروع، فأحس نقاط الحليب التي سالت أرضا دموعا تبكي مأساة التّينة، ثمّ امتزجت بدموعه التي فاضت دون إدراك منه.. واستمرّ في عمليّة القطع؛ لئلّا يحنّ لعلاقته الوطيدة بهذه التّينة، فيتراجع عن قراره وتزداد المشاحنات وَ,..
    ها هي ذي التّينة أصبحت ملقاة على الأرض. هل رضيت؟
    خاطب زوجه، والعرق تتدحرج حبّاته مرطبة ذرات التّراب التي غذّت شجرة الخير.
    وفيما أمّ خالد تنظر، وبريق الفرح يشعّ من عينيها شاكرة زوجها على إراحتها وإزالة عبء ثقيل عن كاهلها، مرّت عجوز، ولمّا رأت ما فعلوا بالتّينة وجمت للحظات ثمّ قالت غاضبة: ماذا فعلتم بالتّينة؟ كيف تتجرّؤون على قطع خير هذا البيت؟ هذه التّينة غرسها أحد الصّالحين من أجدادكم، وكانت وصيّته أن تحظى بالعناية، وأن يتصدّق أهل البيت من ثمرها... اللهمّ كُفّ الشّرّ عن هذا البيت، وامنع عنه غضبك بسبب فعلة أهله.!
    تمتمت بهذه الكلمات، وأكملت طريقها، فيما ظلّ صدى تلك الكلمات يتردّد في فضاء البيت، فشعر أبو خالد بقشعريرة لم يشعر بمثلها من قبل، ونادى ربّه قائلا: اللهمّ ردّ عنّا فأل هذه الخَرِفَة، وشرّ خزعبلاتها!
    لم يعد يطيق النّظر إلى تلك الفروع الملقاة أرضا، فدخل البيت، وأفكاره تروح وتجيء كخطواته التي تباطأت عمّا قبل.
    تعب لكثرة ما رشقته حجارة الفكر، فعاد إلى كرسيّه، لكنّه لم يستطع النّظر إلى الشّرفة كما اعتاد، فنظر إلى صورة جدّه المعلّقة قبالته وأخذته الأفكار بعيدا؛ مستحضرا صور جدّه حين كان يجلس كلّ صباح صيفيّ، ومجموعة من أهل الحيّ بالقرب من التّينة، وسلّة التّين تدور على الحاضرين.
    تُرى هل غرست يداك هذه التّينة، وجئت أنا قاطعا كلّ شيء؟! تسمّرت عيناه في الصّورة، وإذ به يرى حزنا فيهما يردفه غضب لم يسبق أن رآهما من قبل، فأحسّ بجفاف في ريقه، وخشي أن يصبح عاقّا لجدّه، بعدما دعا له وهو مسجّى على فراش الموت بالرّضا والتّوفيق...
    أفرغ في جوفه كوبا من الماء، والشّعور بالعطش لا يُطفَأ وهجه، والنّظرات تزيد من قلقه وخوفه.. وبغتة يخترق جدار صمته صوت حفيده معاتبا: لماذا قطعت شجرة التّين يا جدي؟! انظر إلى يدي التي تضاعف عدد حبّات الثآليل فيها. لقد تذكّرت عندما داويت إصبع زميلي في العام الماضي، وسمعتهم يقولون أيضا بأنّها شجرة مباركة فجئتك مهرولا.. لكنّ جدّتي أخبرتني بأنك قطعتها، وجاء صبية الحيّ وجرجروا الفروع والأغصان وأخذوها بعيدا..
    لماذا فعلت ذلك؟ لماذا؟!
    لم يستطع الإجابة، إذ أحسّ بضيق في صدره، وبعد أن أفلح باسترداد أنفاسه قال: سيكون خيرا، وسنجد حليب التّين للعلاج يا عزيزي.
    هدّأ من روع الصّبيّ، لكنّه لم يستطع تهدئة مخاوفه... أيعقل أن يكون هذا إنذارا وتذكيرا بأنّ قطع التّينة كان خطئا كبيرا، إضافة إلى ما رأيته من نظرات جدّي؟
    اللهمّ الطف بنا، وارضّ عنّا..
    مرّ اسبوع دونما حدث يقلق، فاطمأنّ أبو خالد بعد أن عزله الخوف من عاقبة فعلته عن أقرانه وعياله، فقرّر دعوة أبنائه وأحفاده إلى وليمة عن روح جدّه الذي قرأ العتاب والملامة في عينيه.
    اقترحت أم خالد أن يجلس الجميع في باحة الدّار التي نظّفتها احتفالا بتخلصها من النّحل، والذّبابّ، والنّمل، والورق المتطاير رغم نسمة الرّياح الخريفيّة الباردة.
    وصل الأولاد والأحفاد، وبدوا كخليّة نحل في نشاطهم، وتحضيرهم للوليمة، ثمّ تحلّقوا حول موائد الطّعام، وقبل أن يبدأ البسملة، سأل عن سبب تغيّب ابنه الأصغر أمين، فأخبرته زوجه أنّه سيتأخر بسبب مسافر اتّصل به فجأة؛ ليقلّه إلى إحدى المدن البعيدة.. لا تنتظروه، سيأتي لاحقا ويأكل.
    أصوات الملاعق المزعجة تدوّي في فضاء السّاحة، بعدما كانت تنعشه زقزقة العصافير صباحا ومساء، حتّى في الخريف العاري.
    يأكل أفراد العائلة، ويثنون على أمّ خالد.. لا نكهة لطعام مثل طعام الأمّ. والوالد يأكل دون تعليق على نسبة ملوحة الطّعام.
    انتهت الوليمة، وأصغر الأبناء لمّا يأت بعد. وفيما قلب الأب يخبط قلقا، وإذ بكنّته تصيح: أمين تعرض لحادث سير، ونقل إلى المستشفى.
    هرعت العائلة صوب المستشفى، وبقي هو واجما للحظات، ثمّ تذكّر التّينة، فنظر نحو مكانها، وهاله أن رأى أصلها لا يزال ثابتا في الأرض، فأسرع لإحضار الماء، وجثا على ركبتيه الواهنتين يرويها، ومخاطبا إيّاها بصوت عالٍ: يجب أن تورقي وتثمري.. يجب أن تعود البركة إلى هذا البيت.. يجب...

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 22,924
    المواضيع : 390
    الردود : 22924
    المعدل اليومي : 4.74

    افتراضي

    رائعة قصتك أيتها العزيزة كاملة..
    قال تعالى : ( والتين والزيتون * وطور سنين * وهذا البلد الأمين )
    أقسم الله بالتين ( وقد قدم التين على الزيتون) والله لا يقسم إلا بعظيم
    وهذا دليل على أهمية هذه الشجرة وإشارة هامة إلى أن لها فوائد ومنافع جمة.
    وأنا مثل هذا الجد لا أحب قطع الأشجار, وأرى في قطع أي شجرة مثمرة هو قطع
    للبركة عن البيت ـ وأحمد الله أن الجذور مازالت موجودة وبسقيها ستعود البركة من جديد.

    لن أضيف جديدا عندما أقول إنك أديبة متمكنة من أدواتها بشكل لافت
    سقت النص بلغة متينة وتعابير جميلة لتمتعينا بقصة إنسانية عظيمة
    تحية إليك بحجم روعة قلمك.

  3. #3
    الصورة الرمزية هَنا نور
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Apr 2013
    المشاركات : 478
    المواضيع : 94
    الردود : 478
    المعدل اليومي : 0.10

    افتراضي



    الرائعة المبدعة الأستاذة كاملة بدارنه

    قرأتُها أكثر من مرة .. قراءة تلميذٍ يريدُ أن يتعلم على يد أساتذةٍ كبار.

    بوركتِ سيدتي وبورك قلمكِ المبدع.

    مودتي وتقديري.





  4. #4
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,847
    المواضيع : 195
    الردود : 9847
    المعدل اليومي : 1.67

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نادية محمد الجابى مشاهدة المشاركة
    رائعة قصتك أيتها العزيزة كاملة..
    قال تعالى : ( والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين )
    أقسم الله بالتين ( وقد قدم التين على الزيتون) والله لا يقسم إلا بعظيم
    وهذا دليل على أهمية هذه الشجرة وإشارة هامة إلى أن لها فوائد ومنافع جمة.
    وأنا مثل هذا الجد لا أحب قطع الأشجار, وأرى في قطع أي شجرة مثمرة هو قطع
    للبركة عن البيت ـ وأحمد الله أن الجذور مازالت موجودة وبسقيها ستعود البركة من جديد.

    لن أضيف جديدا عندما أقول إنك أديبة متمكنة من أدواتها بشكل لافت
    سقت النص بلغة متينة وتعابير جميلة لتمتعينا بقصة إنسانية عظيمة
    تحية إليك بحجم روعة قلمك.
    شكرا لك عزيزتي نادية على المداخلة ومرورك الرّائعين ، وتحيّة أروع لك
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  5. #5
    الصورة الرمزية حارس كامل
    أديب
    تاريخ التسجيل : Jan 2013
    الدولة : مصر
    المشاركات : 571
    المواضيع : 66
    الردود : 571
    المعدل اليومي : 0.12

    افتراضي

    دائما لا نقدر قيمة الأشياء إلا بعد أن تزول من أيادينا
    وكثيرا ما نبحث عن الرونق و الأدوات الحديثة ونفقد وراءها تراثنا
    أري في هذه التينة القيم والتاريخ الذي إن اقتلعناه افتقدت بوصلة
    أري في النص اسقاط رائع مع حبكة وسرد جديرين بإبداعك
    سلمت أناملك
    تحيتي وتقديريِ
    لاتأسفن علي غدر الزمان لطالما
    رقصت علي جثث الأسد كلاب

  6. #6
    الصورة الرمزية محمد الشرادي
    أديب
    تاريخ التسجيل : Nov 2012
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 721
    المواضيع : 35
    الردود : 721
    المعدل اليومي : 0.15

    افتراضي

    أهلا أختي كاملة
    نص متكامل، استوفى كل شروط القق من حيث السرد و الفكرة و التشويق في بناء النص.
    لقلمك جمال رائع في الحكي
    تحياتي

  7. #7
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,054
    المواضيع : 132
    الردود : 7054
    المعدل اليومي : 1.34

    افتراضي

    الأخت كاملة
    شكراً لهذا النص الجميل ..لشجرة التين كما للزيتون توقير عند الكثير..وغدت هذه الاشجار رمزاً للاحتفاظ بعبق الماضي وصلة ً بالاجداد.
    ربما رمزتم أديبتنا الفاضلة لشجرة التين بالتراث على عمومه و مهما انسلخ عنه الجيل فإن جذوره لا تزال عميقة.
    تحياتي.
    وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن

  8. #8
    الصورة الرمزية آمال المصري
    عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,995
    المواضيع : 418
    الردود : 23995
    المعدل اليومي : 3.80

    افتراضي

    كعادتك عزيزتي كاملة انتقاء للفكرة وتغليفها أدبيا وجماليا بأسلوب مائز
    كان لشجرة التين هنا دور البطل في النص وإشارة للستر عندما راح آدم وزوجه يخصفان من ورقها على سوآتهما في الجنة
    وبالنص عند اجتثاثها بدأت تحل النوائب على أهل الدار إذ أخذت معها ما تظلل به من بركة على من فيه
    النص يحمل الكثير الكثير ومهما كتبت لا أقدر أن أعطيه ما يستحق
    بوركت أديبتنا القديرة واليراع
    محبتي وسلال ياسمين
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  9. #9
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,847
    المواضيع : 195
    الردود : 9847
    المعدل اليومي : 1.67

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة هَنا نور مشاهدة المشاركة


    الرائعة المبدعة الأستاذة كاملة بدارنه

    قرأتُها أكثر من مرة .. قراءة تلميذٍ يريدُ أن يتعلم على يد أساتذةٍ كبار.

    بوركتِ سيدتي وبورك قلمكِ المبدع.

    مودتي وتقديري.

    لاشكّ أنّك أستاذة متميّزة أخت هنا
    شكرا لك على المرور والثّقة الممنوحة
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  10. #10
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,847
    المواضيع : 195
    الردود : 9847
    المعدل اليومي : 1.67

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حارس كامل مشاهدة المشاركة
    دائما لا نقدر قيمة الأشياء إلا بعد أن تزول من أيادينا
    وكثيرا ما نبحث عن الرونق و الأدوات الحديثة ونفقد وراءها تراثنا
    أري في هذه التينة القيم والتاريخ الذي إن اقتلعناه افتقدت بوصلة
    أري في النص اسقاط رائع مع حبكة وسرد جديرين بإبداعك
    سلمت أناملك
    تحيتي وتقديريِ
    شكرا لك أخ حارس على كلماتك القيّمة
    القيم والتّاريخ يجب أن يبقيا راسخي الجذور في ترب الحفاظ عليهما
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. قراءة في قصّة كاملة بدارنه (ذات خريف)
    بواسطة عدي بلال في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 12-10-2014, 10:24 AM
  2. ذات يوم .. ذات حلم
    بواسطة راضي الضميري في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 29
    آخر مشاركة: 19-02-2010, 08:45 PM
  3. كتاب " خريف الغضب " قصة بداية ونهاية حكم السادات "لـ محمد حسنين هيكل
    بواسطة بهاء كامل في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 03-04-2006, 04:37 PM
  4. برق في خريف
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 20-03-2006, 09:46 PM
  5. قصيدة شعرية ( خريف الأماني)
    بواسطة سالم الشاعر في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 09-10-2005, 08:50 PM