تحت عرجون قديم تلألأت مهجٌ مخمومة أرقها سُهدك. و لو تسنى لي أن أمسك بخيوط القصة من البداية و تسامح معي قلمي فجمع لي أركانه لهتفتُ جذلاً لا يتوقف قلبي عن إهداء أفراحه, أُلقي بالبسمات من منحدرات الأماني, أمزق الواقع المشهود , و أيمم وجهي شطر سمائك.
و لطالما وقفت ببابك و كلما هممت أن أطرقه قفلت من حيث أتيت. لا أزعم أني أعرف الكثير عنك فالمحدثون كُثر والحقيقة لا تقبل كثرة الأهواء. لذا جبتُ مدائنَ الكتبِ و طفقتُ أجمع صورك و أسأل الغادين عنك. كل ذالك لم يفلح في ثقب خرمٍ صغير في حائط برلين بيني و بينك. أنا التي لم أشهد من اسمك سوى ما أمّلتهُ صافرات إنذار قيل أنك تسببت في دويها و مشهدُ فتاةٍ لعوب تجهش على شاشات التلفاز ,كانت دموعها تأخذني لآخر شواطئ الخديعة لتعيدني و آلافٌ صفر اليدين من الحقيقة لأراها اليوم تشرب نخب خرابك كانت تزعم بالأمس أنها قد مسها لفحًا من ضره بعد أن تقطعت أواصر قربى.

اليوم عرفت لِمَ تتلاشى في كل لحظةٍ جزءًا من هويتك إفكًا التي نُسجت في ذاكرة طفولتي, وها أنا ذا أعاود الكرة وعيني ترمق بزهاءٍ أبهى عصورك بعد أن استحال واقعك الذي أبصرت للتو شيئًا منه خرابًا, و ثقبًا أسود يبتلع ضيائك صنعتهُ لحظاتُ سماعي صوتك المختنق.سأتناسى تلك المخلوقات التي غض العالم المسعور عن رؤيتها و ما فعله و يفعله بهم كل يوم فسفور عبد بني صهيون ,و سأكذب أرقام تحصي الأيتام في دار السلام و ما جاورها وسألعن من يأتيني بقصص تَهتُك الإنسانية في أقبة الزبانية.
لكن أصدقكم القول أنّي اليوم لا أعرف بغداد !!

أخاطبك اليوم فلا تردين سوى بالأنين. و طفقت تغزلين قصة الحنين فتتشابه عليك الحوادث العظام و مسارحها. و تعجبتِ بماذا تبتدرين؟ أبتلك التي أتت تخطر إليك في سقمٍ تجر طفلاً و العين خافضةً و الخطو مثقل؟!
رأيتُ توائِمُك كلهن تلك الأرملةُ التي شابت قبل أوانها و حسنها كحزنها لا يفارقها. استطالت بها فجائع الدهر حتى أنستها مواسم التبسم والضحك ,و غدت حبيسة صدرها. و أنى لها أن تَطلْ والأفق يضوع برائحة الدماء و الأرض تفترشه أجساد مبعثرة اصطف بعضها في طوابير الموت! . سألتها عن حالها سؤال متجاهل لا جاهل فلم ترد. أطرقت برأسها فخلتُ أن الكون بأسره قد اطرق معها. بادرتها :" إَلا يقال بأنكم للعرب جمجمةٌ و للرجال كنزٌ وللأمصار مادةٌ و رمح الله في الأرض الذي لا ينكسر؟! " تبسمت من قولي .حاولت أن أنفث فيها الروح فألقمتني جروح. لم تعد هي تلك الحسناء التي قادني البغدادي في تاريخه عبر دروبها , ولم تعد تلك القطعة الفردوسية التي تنمو فيها الدور على مد ظلال نخيلها . أحقًا دجلتها وفراتها تحولا إلى نهري دمع يغص بهما كل طائر ؟
و كلما غمست مدادي في محبرة سنيك العجاف سال النجيع على صفحاتي البيض فاستعذت بالرحمن وجلةً متدثرةً بأملٍ جذوب و وردت معينًا آخر من أطرافك الساهدة فيفيض الموت من كل مكان.
بغداد! أخبروني أنك توأدين وتبعثين في كل حول مرةً أو مرتين فمتى أشهد قيامتك؟
بغداد! ما مضى ليس زمانك ولا ذاك عنوانك ,ليس هذا خير ما يعرف عنك ولا بهذا سدتِ قرونًا تطاول فيها شامخًا عنفوانك.
يا أيتها الدار التي بقيتْ خاويةٌ على عروشها بين ليلة وضحاها ! لا أملك لك من الله شيئًا لكن فجرك آتٍ فلا تبتئس بما كانوا يفعلون.
ويا أيها الشاعر الذي خط الشيب مفرقه, و تشتت أبناؤه و أحفاده في قارات متباعدات! دونك طي المسافات تحت هدير فرسان يمتشقون الفجر و تصهل لهم الريح فأعد لهم قصائد النور و إن تلاها أحفادك من بعدك.
و "جندٌ بالعراق" نبوءة الذي لا ينطق عن الهوى ,وغدائر مجدٍ لا تحجبها الظنون .فهنيئًا لك أيها الفارس الذي اجتمعت عليك قوى العالم فأبى الله إلا أن يذل عدوك ويدني وقت ترجلك و وطئك ثرى هارون و جمع أشتاتك و لعله أقرب إليك من شراك نعلك في دنيا جمعتها بين كفيكَ من قبل و ألقيتها في حممِ السراب أو في مقامات الخلود المُتزينة لك و صليل غضبك حممٌ تقذف بها جحافل الظلام.