حبٌ ..هذيانٌ..
وإيمان!


..لقدْ كانَ وقعُ الحادثِ عليهِ أليماً إذْ ذهبتْ ساقاهُ في حادثِ سيارةٍ. ورُكِّبتْ لهُ ساقانِ اصطناعيتانِ. كانَ يقضي معظمَ وقتهِ ملقىً على السَّريرِ في المستشفى فترةَ النَّقاهةِ. وكانَ في ساعاتِ خلوته تروي منهُ عينانِ تسِّحانِ الدَّمعَ منْ طرفيْ عينيهِ الوسادةَ، أو تقلِّبانِ السَّقفَ الأبيضَ يمنةً ويسرةً كمنْ يقلِّبُ ورقاتٍ بيضاءَ في دفترٍٍ خالٍ منَ السُّطورِ. فهل أصبح قلبُهُ حقّاً خالياً منَ السُّطور؟!

زرتُهُ مراتٍ عديدةٍ في المستشفى..بعدَ انْ أُجريتْ عمليةُ البترِ لساقيهِ.. وكُنتُ أطيلُ الجلوسَ في المقعدِ المجاورِ عندَ رأسهِ.. فكانَ يصحو أو تأخذهُ سِنةٌ من نومٍ.
وكان إذا استيقظَ يبادلُني الابتسامَ. لكنَّهُ إذا عادَ ونامَ...تعاودُهُ الأحلامُ ويهذي..فيردِّدُ أسمَها " إيمان..إيمان.." بصوتٍ يكادُ يكونُ مسموعاً.. فإذا انتبهَ من غفلةِ الحُلمِِ إلى الشَّخصِ الجالسِ عندَ رأسِهِ...قالَ وقد علتْ علامةُ الخجلِ التي أعهدُها فيهِ دائماً: أعلمُ أنَّكَ قدْ سمعتَ هذياني..

قلتُ : لقدْ سمعتُ يا صاحبي لحنَ هذيانٍ جميلٍ لطالما ردَّدتَهُ على مسامعي’ ثمَّ بصوتٍ هامسٍ قلتُ:..إيمان...إيمان!"..لولا أنْ تفنِّدون!
فضحكَ وانفرجتْ أساريرُهُ قائلا:يا أخي.. لا تأخذِ الأمرَ على محملِ الجِدِّ..إنْ هوَ إلاّ هروبٌ من الواقعِ ..وإنْ هيَ إلاّ أضغاثُ أحلامٍ!..ٍ

قلتُ: لطالما كانَ حبُّكَ يا صاحبي حباً أفلاطونياً..أتذكرُ عندَما كنتَ تقولُ : لو قُدِّرَ لي أنْ أتزوجَ منْ أحبُّ..لانتهى الحبُّ، ولنْ يكونََ حبِّيَ إلاّ جسدياً...وإنَّما الحبُّ هوَ تلاقي روحينِ..وكأنِّي بكَ تريدُ أنْ تضعَ حبيبتَك في قفصٍ زجاجيٍ..فلا تصلُ إليها ولا تصلُ إليكْ..!!

قالَ: ألا ترى صدقَ ما أقولُ...فلو كانَ الحبُّ جسديّاً...لكانَ عليَّ أنْ أستبدلَ هاتينِ السّاقينِ الاصطناعيتينِ..بساقينِ بشريتينِ كاملتينِ -ولا يقدرُعلى ذلكَ إلاّ الله، أما أنا فلا -...ليتحققَ التَّكافُؤُ معْ منْ تُحبُّ...
قلتُ: لكنَّكَ عندما أخبرتَها بفلسفةِ حبِّكَ ..فرَّت إلى حبٍّ ...بطولِهِ وعرضِهِ تعرفُهُ هيَ حقَّ المعرفةِ ..إلى شابٍّ آخرَ يقدِّرُ ذلكَ فتركتكَ.. ثمّ تزوجتْهُ..

قالَ بهدوءٍ: لنفترضْ جدلاً أنَّ ذلكَ الشّابََّ حصلَ معهُ مثلَ ما حصلَ معي..طبعاً وإنِّي لا أتمنى ذلكَ!

قاطعتُه: إذنْ!

قالَ بحدةٍ: إذنْ كيفَ سيتكافأُ حبّانِ جسديّانِ!
قلتُ بحدَّة مماثلةٍ: الوفاءُ...صمت هنيهةً ثمَّ ووبسمةٍ فاترةٍ قاطعني: الوفاءُ.. لمَ لا تقولُ الشَّفقةَ!...فصمت قليلاً ثمَّ تابع: أقتلُ نفسي إنْ نظرَ إليَّ طفلٌ بعينِ شَّفقةِ!...فكيفَ إذا الحبيبُ..فاغرورقتْ عيناهُ!

قلتُ : الزواجُ ميثاقُ شرفٍ...يتعاهدُ فيهِ الطَّرفانِ على التَّضحيةِ والإيثارِ!

قال: ربَّما أنتَ تحتملُ ذلكَ!...فوقعَ قولُه عليَّ كالصّاعقةِ..فرددتُ على الفور: "قدرُ اللهِِ يا أخي ولا قدرُكَ"...فامتقعَ وجهُهُ ..فاستدركتُ : عفواً ..لم اقصدْ ذلكَ...ثمَّ سادَ صمتٌ طويلٌ ...فودَّعتُهُ على ان أعودُهُ في اليومِ التّالي...

في اليومِ التّالي عدتُ إليهِ..وكانَ نائماً...تنفرجُ أساريرُهُ بينَ الحينِ والآخرِ..منَ ابتسامٍٍ إلى ابتسامٍ...ومنْ ابتسامٍ إلى ضحكٍ خافتٍ... ثمَّ لفتَ نظري باقةُ َوردٍ أبيضَ على النُّضُدِ المجاورِ للسَّريرِ...فاقتربتُ وقرأتُ البطاقةَ الملصقة َبالطاقةِ .." أتمنى لكَ شفاءً عاجلاً ...وحياةًً سعيدةً...
إمضاء: إيمانً "...
فهمست في نفسي " أظنُّ أن هذا يكفيكََ من أمرِ حبِّك من زادٍ في سفركَ الطَّويلِ!"

فاستخرجت قصاصةَ ورقٍ منْ جيبي وقلماً وكتبتُ".. لم أشأْ أنْ أوقِظَكَ..أو أقطعَ عليكَ حبلَ إيمانِكَ!..أتمنى لكَ السَّعادة!
توقيع "..