"حين تكون اللحظة مسكونة بحلم "

القبـــطان


أراح القبطان أشرعته، ألقى مرساته في عمق الرصيف، تناول لفافة تبغ واستنشقها كأنه يلتهم طريدة بحرية بعد جوع قاس، تناوب عليه أثناء رحلته البحرية، اتجه نحو مقدمة المركب المتعب من أمواج غاضبة، ورياح صاخبة، وسحب ماطرة، وليل طويل.
امسك القبطان دفته، والسيجارة يتصاعد دخانها متقطعا كأنه يبحث عن تلك الغيمات ليتدثر بها من غضب الشفتين القابضتين على عقبها، القبطان غاضب، والمركب متعب، والسارية منتصبة مثل قامة ناشبة لا تنال الرياح من جسدها شيئا، وحدها المنتصرة في هذه الرحلة المضنية.
أي نهار يهرول نحو الغروب خائفا من تجهم جبهته العريضة؟ من قامته الممتدة تطاول رأس السارية حين تلوح للناظر من بعيد، اللحظة وسط اليوم دون شمس قال: عودي أيتها اللعنات نحو مصيري، عودي غاضبة مشرّعة بؤسك وحنقك وغضبك، الآن سأحطم وجه النهار لأكشف الشمس واعريها، وأحرق جزر تخطت أحلامي النائمة وذكرياتي الهائمة على وجهها، تبحث عن معبر درب يوصلها إلى حيث الساجدة في محراب وحدتها، اللعنة، قالها حين نفض ما تبقى من لفافة التبغ وداسها بنعله وكأن خبطة قدمه تدق ويرتد صداها صوب جنبات المركب الهرم من قسوتها، أحاول أن أعيد ترتيب اللغة الحالمة بالآمال، تجدني ابحث عن لحظاتها بين التجهم والمأساة، بين الألم والابتسامة، آه أيها البحر، آه من دواره، آه من موجه، من ليله، وغضبه... ماطرة أيامي دونما لحظة شمس تنير وجه نهاري البائس، الخوف، اي خوف هذا ؟ إذن الخوف، ترددت حروفها، تحركت شفتيه المتعبتين المنهكتين كشجرة صبّار تعلك أشواكها وتتذوق مرارة سائلها، بحث في جيوبه الأنيقة عن علبة سجائره...هي الأخيرة، تناولها بلمسات حانية دافئة، ورفع قبعته البيضاء لتكشف، أكثر، عن جبهته المتجعدة، وابتسامة ساخرة رافقتها ضحكة، أي اغتصاب هذا للشفتين بضحكة طعمها كالعلقم المتجذّر بطعم المرار؟ هل تقبلين ان أداعبك قليلا ؟
السيجارة حائرة وماذا بعد ؟ تناوبت عليها أنامله التي لم تعتد غير القبض على دفة المركب وحملتها بتؤدة متناهية نحو أطراف شفتيه وتناول عود ثقاب... أشعل الأول وأطفأته نسمة كانت تختبيء خلف السارية، أدار وجهه كأنه يبحث عن مصدر نسمة الهواء، كلمات تخطت عتبة التفكير لتكون تمتمة على شفتيه لتتمايل السيجارة وكأنها تسجد مودعة لحظاتها قبل ان تعانقها النار... همس النسيم يعود، حواري البحر حكايات قديمة، لا العنقاء و لا الخل الوفي، ولا حكايات اباطرة البحر عن حالة عاشقة تخرج حين تهمز الشباك، انها حاضرة الى العودة نحو صدر المركب... لحظة اخرى استراحت لها لفافة التبغ المرتعدة من مصير حتمي سيصلها بعد لحظات ...تكتفي حركات انامله بملاحقتها، هذا الزمن المهجور من الحقائق، المسكون بالاحلام، الأحلام وحدها الحقيقة، قالها حين امسك بقبضته الغاضبة عنق السارية، وعيناه تتجولان تبحثان عن رائحة حورية...حورية! ضحكته تفجرت من عمق حنجرته المثخنة بالكلمات، متوالية، غير منتهية، من الضحكات المسكونة بحالة هستيرية، اي جنون هذا؟ يا بحر هب لي من لدنك احلامي لأنفض وحدتي في وجه ذاك الجبل...أشار وكأنه أمام حالة تمثيلية دون (دوبلير) ودون مشهد يقف خلفه ثلة من الآخرين دون تلقين. الاشارة وحدها أخرجته من حالة الصمت المكتوم الى حالة الصمت المتفجر، تراقصت السيجارة طربا على أنشودة الضحكات، الفرح مهنة صعبة بعد تجهم مطبق.
أيها البحر هاأنذا انتشي كقوة، كصخب، كموج يقذف موته نحو رصيف هرم يمتلئ بالحكايات القديمة، كم دهر كان هنا ومضى؟ حورية لمرة واحدة وامضي، ارحل وانتعل اليابسة وامضي، أمتطي صهوة كبريائي وارحل نحوه، المرفأ، وحده، سيكون ... وأنا وحورية أحلامي ولفافة تبغ لا تعرف مصيرها المحتوم، لفافة تبغ وعود ثقاب لا يشتعل، وهبتك الحياة يوما آخر، فامنحيني نسمة أخرى ابحث عنها خلف السارية.


*****
عبدالسلام العطاري /رام الله
في يوم ماطر /عاصف /ينتظر بياض الثلج .
فبراير /2005