رائحة المكان


تحياتي القلبية،
الحنان والألفة والاستمرار،
أبي الكريم.
.. ملؤها المحبة والمودة والحنين.
... أتمنى... بخير وعافية من الله ....
هو ذا مظروف يتهادى بلون ربيع الأيام الفاتح، أطرافه مزركشة بالأحمر والأزرق يتعاقبان على شكل معينات، وعبارة البريد الجوي مطبوعة على خده الأيمن، وها هي ورقة زرقاء كسماء الصيف الصاحية أرفعها إلى شـفـتيّ وأقبّـلها ثم أنظر إليها وإلى الحروف فيها وأطويها بعناية، وبلطف أدفع بها داخل المظروف، ألوان الطيف تعانق أعطافي المتقوقعة على مودة عارمة تكاد تنبهر بأصداء الذكريات، وتنساب على عمر الأحزان المتحرك، ولكن الذكريات ثبتت فيه وانطبعت على أروقته وأكنافه. اتخذ المظروف مكانه داخل دفتر المواعيد كي يتم التصاقه ويُحكم إغلاقه فلا تهرب منه كلمة ولا تنفذ منه رائحة الذكريات، هذا الدفتر المليء بإشارات تنم عن وجع الرأس وسرعة الزمان وكثرة الأشغال، ثم نام المظروف هادئا في الدفتر حتى الصباح.

سألني موظف البريد: رسالة عادية.
قلت: نعم عادية فيها سلامات وسؤال عن الصحة والأحوال.
استبشر وجهه وبانت نواجذه حين قال بلهجة السؤال: أقصد عادية أم مسجلة.
رددت الابتسامة وقلت: عادية.
استدار ووضع ختما على الرسالة وهو يسأل عن النقود، وما زالت آثار الابتسامة على محياه. لم أعط للأمر انتباها إلا حين رمى الرسالة في كيس من القماش معلق على عربة معدنية، قلت: على مهلك المظروف فيه عواطف أخشى أن تُخدَش فتصحو وتهرب. أعاد الإبتسامة التي لم تنطفئ بعد وقال بصوت فيه مودة: أراك ما زلت تستخدم البريد العادي أليس لديك بريد الكتروني أو جوال. كان الوقت مبكرا والجو في الخارج يعلوه الغبار وقرص الشمس يحاول الوصول إلى الأرض وتكاد تسمع صدى صوتي وصوته في صالة مكتب البريد، أجبته: لدي كل هذا ولدي أيضا (ماسنجر) كله متوفر والحمد لله. قال مردفا: ولماذا ترسل رسالة فيها عواطف فقط وتكلفك أكثر من رسالة جوال أو بريد الكتروني. قلت بأدب: أرجوك هذا شأني. فجاء معتذرا طالبا مني الصفح بشأن تطفله عليّ فخجلت منه ورجعت نحوه بعد أن هممت بالخروج وقلت: لا عليك يا أخي الكريم إنما هي عادة اعتدت عليها مع أبي وأنا في الغربة ولا أحب أن أقطعها أو أكسرها، أخاف على نفسي من الجفاء العاطفي. أومأ وأرجع البسمة قائلا: معك حق فالسرعة أفسدت أشياء كثيرة في حياتنا. أتبعته بقولي: خطي بقلم الحبر السائل هو أنا يعبر عن مكنونات سريرتي، ولواعجي أبثها بحميمية ومودة لا تستطيع أن تقارنها مع القليل مما تعطيك التقنية الحديثة، الزمن يتوقف مع كتابة كل حرف باتجاه أهلي ويعيدني على موجات الأثير طفلا حانيا، أرجو أن تفهم قصدي، والمكان في تلك اللحظات لحظات الكتابة ينبع أمامي، يتصابى وينتشي، يتباهى بوجودي ويؤيد شكواي، يداي مشغولتان، فأتحسسه بأنفي وأملأ منه صدري شهيقا عميقا لا أتركه حتى يحمر وجهي، وأنا لا أعترض على التقنية الحديثة ولكن كيف ننسى الماضي بحلاوته وطلاوته، نضرب به عرض الحائط وهو ما أتى بنا ورعانا. كان منصتا بشغف ومرفقاه على الطاولة التي بيني وبينه، استقام وقال: صدقت يا أخي أقسم لك أني تعبت من الركض وراء الحياة المتفلتة وأتمنى أن أجلس ساعة أكتب فيها رسالة حميمية لأحد أحبه، لم أفعل ذلك منذ عدة سنين. ثم استدار نحو الباب فقد تناثرت الأصداء ولم ترجع فهاهو زبون يمشي باتجاهه ومعه طرد بريدي، قال لي: أرجو ألا تذهب. أخذ منه الطرد ووزنه ثم دفع الزبون المبلغ وخرج. أكملت وقد عاد الصدى: كان أبي يعرف أنني أدخن وأنا واثق أنه لم يخبره أحد عن الأمر ولم ير قط لفافة في يدي من قبل عند زياراتي القليلة له، كان يشم رائحة ورقة الرسالة لا شك، كنت أدخن بشراهة عندما أكتب دائما ولم أشعر بهذا، وعندما دخنت الغليون لفترة قالت لي أمي على الهاتف تدخن الغليون فقلت كيف عرفت قالت من والدك، وقتها قنعت أنه يشم رائحة المكان مثلما أتحسس أنا رائحة الذكريات هناك، كل بطريقته، وبعد أن أخرجت زفيرا طويلا ومزقت آخر لفافة ورميت آخر غليون من الشباك وصلتني رسالة منه يقول فيها مبروك يا بني حافظ على صحتك. قال صاحبي وقد عاد إلى الاستناد على مرفقيه: الله الله يا أخي، أعدتني إلى ذكريات لدي حميمة كدت أنساها في خضم العمل والمسؤوليات المتزاحمة. ثم قص علي قصة من عنده. تركته هائما بلذة سامقة وخرجت وقد تلاشت آثار الغبار من الجو فجأة وبرزت الشمس بعد محاولات بكل إشعاعاتها إلى الأرض، وفي عينيّ بحر من الدمعات تترقرق وستخرج حتما لتنزل سيلا على الخدين، خديّ أبي.