يومية بتاريخ 16ـ 12ـ 1998
يومَ الأربعاء كان ذلك اليوم الموافق لِـــسِتة وعشرين يوما خلت من شعبان ،
قفلت عائدا إلى بيتي بعد العمل كالمعتاد ، وقد اشتد الحر وحَمِيَ القيظ ، و توقف ذهاب وإياب المارة ، وبين عينيّ سبيل ولا سابلة ، كنت وحيدا أسير، مضيت وخلف ظهري تركت دوار أولاد الدالي وقد تقلص وانكمش بعد طول مسير ، وبدا كتلة واحدة حين التفتّ إليه ، فهو جميعٌ عن بعد ، شتيتٌ عن قرب ، عُـجْتُ على دوار أولاد عبو سريعا ، اجتزت تلة على ضفة الوادي صاعدا ثم نازلا فبالغا سد سيدي ادريس المَشِيد على نهر يحتضن الدجاج الطائر ، وتحتضنه النباتات والأشجار من كل جانب ، يدعى النهر الأخضر .

استغرقني المسيرُ جهدا ووقتا ، واستغرقْتُ زمانه تأملا وفكرا ، غريبٌ في أرض أقفرت من كل حبيب ،لا أم ولا أخت ولا أخ ولا من إليه أشكو همي وما أجد ، ولا صديق حميم أقول برأيي تارة ويقول ، وإن القلب والحال تلك لعليل عميدٌ ، كم ذا لفراق الأحبة يتفطر ويجبُ .. بيني وبين عِرْسي تلال وجبال ووديان وسهول ، تناءى منا الجسدان وتلاقى الروحان ،واشتاق الجَنان إلى الجَنان ، وطال البعاد ولا عزاء إلا بعض تَعَلّلٍ بشتات ذكريات وشظايا نظرات مختلَسات ، تتراءى في أفق الذكرى ،ثم ما تلبث أن تتبدد وتنجاب.
وقفت وحيدا والمكان قفار ، أعلل النفس أؤملها علَّ وعسى تأتي مركبة الأجرة ، تتجدد هذه الحكاية كل يوم ، حكاية رتيبة مَلول يخرسُ معها كل كلام ، ، أمر على جنبات النهر الأخضر ، أحث السير في السهل الخفيض وأخففه لدى العقبات الكؤود ، أحيانا تشدني بعض المناظر النضيرة فأسَرّ ، وأنقبض أحيانا إذ يرتد ناظري إلى صحاري الشوق والحنين الممتدة في خافقي .
تستفرد بي الغربة فتقضم أحلامي وتستبد بي الأشواق فتقتات آمالي ويستحوذ علي القلق فيعتكرُ مزاجي ، فتستحيل الرياض بين ناظري قفارا دونها قفار ويستحيل معها اليومُ أسبوعا والأسبوع شهرا والشهر عاما والعام أعواما .
أهز هامتي المتدلية على صدري ،أتنشق أنفاسا عميقة ,أزفرها آهات سحيقة....آه وآه وآه ...!
خطواتٌ معدودة وأضع قدمي على طريق مزفت... طريق الإسفلت ، "الكودرون" واشوقي إلى رؤية طريق الكودرون .. ! إنه على مرمى حجر مني ، و"الكودرون" كلمة أعجمية لكنها تحلو على لسان كل أستاذ انهد جانب من عمره في الأرياف .
جلست أستريح من تعب الطريق ، وقد طال بي المكوث أنتظر الفرج ، وبينما أنا شارد بين جبال من الأشجان وتلال من الأحزان ، إذ بجرس مركبة الأجرة ينتشلني من تلك الأشجان وهاتيك الأحزان ، الحمد لله قد وافى الفرج .. أقَلتنا المركبة وانطلقت بنا تُجاهَ الغاية ، خيم الصمت وانتهز القلب الفرصة كدأبه ليستقل هو الآخر راحلة الشوق من جديد ويسافر على متنها إلى غايته ، سفرا قاصدا ورحلة هادئة لا تشوبها شائبة ولا تكدرها الأكدار شائقة هانئة ...
ماهي إلا لحظات وأستفيق من سفري الواله ، على صوت كوابح المركبة ، لقد بلغنا محطة الوصول ، سرت إلى بيتي وحيدا كما المعتاد، تلك البناية المائزة كانت مركز البريد ، استفسرت الموظف هناك : هل من رسائل باسمي يا سيدي ؟ طأطأ رأسه وألقى بعينيه بين كومة الرسائل باحثا ، رفع رأسه ومد إلي طرفه ، ناولني رسالة من مدينة الدار البيضاء من السيدة فاطمة ، هنالك تهللت أساريري وتعطلت حوافز الكآبة في دواخلي ، وارتعش جسدي الجهيد ، أسرعت إلى بيتي الصغير.....................

يتبع