أطياف الذكريات

تقتحم علي خلوتي بلا استئذان كعادتها، ترمي بجسدها على الأريكة و هي تغني لحنا راقصا تتمايل على إيقاعه كسنابل قمح ناضجة يداعبها نسيم الصباح، ترمقني بين الفينة و الأخرى بنظرات متسائلة :
" لم لا ترقصين؟ "
و كأن السؤال أحرقني فقفزت من مكاني كمن لدغته أفعى
تسابق قداماها الريح، لتقف أمامي بقامتها الممشوقة و جمالها الأخاذ
" ممن تهربين مني أو منك أو من هذا الوحش الساكن بين ثنايا روحك؟
أنظري إلي منذ متى لم تلمحي طيفكِ في المرآة منذ زمن طويل أليس كذلك؟ وجه يابس و أنامل صدئة و ظهر محدودب و عينان مات فيهما النور و شفتان عات فيهما الحزن."
مزقني الألم بينما كلماتها تنهال علي كقذائف عنقودية تشطرني إلى جزيئات صغيرة تدمرني تمزقني تمتني و تحييني.
أنهت كلامها و هي تخفض يديها باستسلام :
" كوني وردًا يعانق قطر الندى كل صباح
كوني نجمًا يغازل نور القمر كل مساء
كوني نغمًا يتردد صداه في كل الأرجاء
كوني أنتِ
كوني نبض فرح."
و يفيض الصمت الصاخب في عيني براكينا تتقاذف حممها على شفتي:
" أنت أيتها الجميلة المشرقة دعي الموتى في قبورهم و دعي الجثث في أكفانها و دعي الحمقى في عالمهم و دعي الأشقياء في جحيمهم.
كوني أنا ثم علميني كيف أرقص جذلا
كوني أنا ثم علميني كيف أعزف طربا
كوني أنا ثم علميني كيف أصنع من جدائل شعري مراجيح للفرح
كوني أنا ثم علميني كيف أصنع من جلدي طبولا للأمل"
صدمتها قسوة الكلمات فتراجعت لتجلس على الأريكة
مزقت أثوابي الرثة و تابعت
" أتعلمين لم هذا الندب يزين يدي؟
هذا لأني نسجت يوما من خرق بالية دمية صغيرة، أحرقوا الدمية و أحرقوني.
و هذا لأن يدي عانقت كف صديقة بتروا يدي و أهدوني القطيعة.
و هذا لأني يوما غنيت ،
و هذا لأني يوما رقصت ،
و هذا لأني يوما ابتسمت.
و هذا و هذا و هذا ....
أنظري إلي
ألا ترين تضاريس العذاب على جسدي؟
أنتِ من تهربين."
أسندتُ جبهتي إلى زجاج النافذة البارد لعله يخفف سعير الألم داخلي
و تابعت بهمس
" هاك طفولتي و استأصلي منها جحيم الذكريات
هاك جلدي و احرقي فيه ندوب الجراحات
هاك روحي و نظفيها بالماء و الثلج و البرد
أرني كيف تقتلين الذكريات و كيف تنسجين من الدمعات بسمات."
التفتت إليها فوجدتها رحلت كعادتها بدون استئذان.


عايدة عبد الله