في إحدى أزقة طنجة ولدت ،في حي كئيب يطل على المحيط الأطلسي ، منازله توشك على السقوط ،في منزل يتكون من غرفتين متجاورتين ومطبخ صغير توشك جدرانه على التهدم بالمثل .لم تعرف غير سكان حيها ربيعة ،فاطمة، مريم، لالة سعيدة، مي هنية ،خالتي زبيدة ،لحاج عبد القادر، باعبد السلام ،سعيد القهوجي، محمد الميكانيكي ،وبوحاجب مجنون الحي، و...و..و غيرهم من أصحاب الأسماء الذين تجاهلت وجودهم فلم تكن تبادلهم التحية إلا مرغمة، أو على عجلة من أمرها، كانت هي هبة الله ،هكذا كان اسمها ،فقد كسرت خمسة عشر سنة من الانتظار في لحظة . جلست هبة الله على السرير لدقائق تحاول أن تمسك بإحدى الجسيمات التي تخترق ستار النافذة عبر ثقوبه، وضعت يديها وسط الشعاع تحاول أن تسد الطريق أمام تلك الأجسام الغريبة التي تسبح في العدم، جرس الساعة يعلن عن التاسعة صباحا، رفعت الغطاء عن جسدها ، وتوجهت نحو المطبخ، وجدت والدتها بانتظارها مع صينية الشاي .قبلت يدها وهي تقول:
- آسفة كنت أريد أن أستيقظ باكرا هذا اليوم، أعرف أنه يوم إجازتك وأنت بحاجة للراحة.
أمسكت لالة عيشة بيد ابنتها وضمتها بحب إليها وهي تقول:
-أنا أخدم الناس كل يوم فكيف لا أخدمك أنت، أنت هبة الله التي أنعمها علي بعد طول انتظار.
ضمت هبة الله والدتها إليها وهي تسألها:
-أحقا أشعرك بتلك السعادة التي أراها ترتسم على وجهك؟
ردت لالة عيشة عليها وهي تقبل وجنتها:
-لو لم تكوني بحياتي لوجدتني غصنا مكسرا على شجرة الحياة ،لا يقوى على مواجهة الأعاصير ولا السقوط نحو الأرض كي ينعم بالراحة،منذ مجيئك وجدتني أعيش الحياة التي كنت أحلم بها دوما، أعيش أقداري وأنا راضية ومبتسمة ،وكلما كبرت أكثر أشكر الله على نعمته .
حضنت هبة الله والدتها بحب أكبر وقالت:
- أنا أيضا أشكر الله لأنه منحني أما مثلك .
مسحت لالة عيشة وهي تقول لابنتها :
- علينا أن ننتهي من أعمال البيت كي نقصد المقابر، فقد يبس الريحان على قبر والدك. نظرت هبة الله إليها وتمنت أن تخبرها أنها لا تود أن تزور المقابر ولا أن تذكر والدها ،غير أنها تعرف قداسية يوم الجمعة عند والدتها، فلم ترد أن تحرمها منها .
جلستا على الطاولة تتناولان فطورهما بصمت.بعد ذلك قامت هبة الله بغسل الصحون وتنظيف البيت،صوت الموسيقى يصل إليها من المنزل المجاور فتدندن معه:" يا بنت الناس أنا فقير ودراهم يومي معدودة إنما عندي قلب كبير وبحور شطآنو ممدودة .... "تضحك في سرها على ما تردده، ولسان حالها يقول:وهم أن تكون ضائعا في صحراء الفقر الممدودة نحوك لتجد أن هناك واحة قلب بانتظارك،وهم أن تصدق كل ما يحكى بدافع الحب، لطالما لعنت كل من يتحدثون باسمه،فكل رجل لا يتعدى كونه مجرد رجل بالنسبة لها ،بحثهم مستمر عن الأجساد الرخيصة فحسب.منذ صغرها تعودت أن ترسم صورة الرجل بهذا الشكل، ولم تغيرها يوما ،وصورة النساء مستسلمات قابعات في مكانهن ينتظرن متى يطرق بيتهن رجل.توجهت نحو المرآة نظرت إليها لدقائق و رسمت ملامحها على الزجاج بأصابع يديها الدقيقة وهي تذكر نفسها بذات الوعد :" لن أجعل مني لعبة في يد رجل، أعدني"قبلت صورتها المنعكسة على المرآة وانصرفت كي تكمل ما تبقى من أعمال البيت قبل أن تتوجه مع والدتها للمقابر.
كم كرهت في سرها أن تفعل ذلك، كرهت أن تكذب في حرمة المقابر وتدعو لوالدها بالجنة وفي قرارها تتمنى له أن يحترق في النار.لم تقرأ يوما على قبره سورا من القرآن كما كانت تطلب منها والدتها أن تفعل، كانت تكتفي بتلاوة أفعاله الدنيئة عليه كلما اقتربت من قبره كي تضع عليه الريحان، شفتاها تتمتمان ووالدتها تطلب منها أن تكثر من تلاوة القرآن عليه كي تخفف عنه من عذاب رقدته.لطالما تساءلت بينها وبين نفسها عن سر هذا الحب الذي تكنه والدتها لوالدها ،لم يكن يستحق منها أن تهب له كل حياتها في حياته وموته أيضا، لقد كان سكيرا لم تره يوما كباقي الآباء ولم تسمع منه كلمة طيبة طيلة حياته،لم يكن يسألها كباقي الآباء عما تريد بل كان دوما يجبرها على الرضوخ لما يريد ، كانوا دوما على موعد مع شجاراته المتكررة ،وكانوا كثيرا ما يحتمون بالجيران عندما كان يخرجهما من المنزل في ظلمة الليل ،لأن والدتها لم تعد له الشاي أو لأنها لم تطبخ ما يشتهيه من طعام ،وحين كانت والدتها تطلب منه أن يشتغل ،كان يوسعها ضربا وينظر إليها وابتسامة ساخرة مرسومة على شفتيه وهو يردد :ولماذا تزوجتك؟ ألكي أصرف عليه انت وابنتك. وعندما كانت والدتها تخبره أنها ابنتهما ،كان يرد دوما: لم أردها يوما ولا أريدها الآن ،كان يعبث بجسدها عندما تغيب والدتها عن المنزل ولم تكن تعرف معنى لكل ما يفعل بها إلى حين كبرت، فازداد مقتها له أكثر،كرهته لأنه عوضا من أن يعلمها كيف تحرص جسدها ،كان أول من سجل غزواته عليه.كرهته لأنه جعلها مجرد مزبلة يفرغ فيها نزواته ، قتلها وهي طفلة لم تدرك معنى الحياة بعد، فكيف تطلب والدتها منها الدعاء له بالغفران !! وهل تستطيع أن تفعل ذلك؟هل تستطيع أن تدعو له بالرحمة وهو من قتل الربيع فيها قبل أن يولد.؟هل تستطيع أن تدعو له بالرحمة وهو من جعلها تعانق فصلا خريفيا واحدا وتتقيأ مرارة الماضي كل يوم حين اليقظة والنوم؟ لقد وشم جسدها بجرح لا يمحى ووشم طفولتها بجرح أكبر. وظل السؤال بداخلها يعاند أقداره ،لماذا كَسَرَتْ خمسة عشرة سنة من الانتظار إن كان وجودها قد أعدم على حائط الزمن بتلك الصورة.؟كانت تلك دوافعها التي تجعلها ترضخ لرغبة والدتها حتى تزور قبره،كي تتلو عليه أفعاله الدنيئة وتذكره بها في موته وتخبره بما لم تستطع قوله له عندما كان على قيد الحياة.لطالما تمنت أن يكون موته على يديها كي تغسل عن جسدها أدرانه، لكن يد الله كانت أرحم،لقد وارى هذا السر مع جسده المخمور تحت التراب ولكنه ظل حيا بداخلها لم تستطع أن تنتزعه منها، وهو الذي يجعلها تقف لدقائق طوال أمام المرآة كي تذكر نفسها بذلك الوعد الذي قطعته عليها منذ أن وعت بما كان يفعله بها. عادت من المقابر والدموع تغسل وجهها ، يد والدتها فوق كتفها تهدئ من روعها وهي تهمس لها :لا تبكي سنلتقي يوما هناك.
رددت في سرها ودموعها ما زالت تغسل خدها المتعطش للدموع : نعم سنلتقي هناك وسوف أجبره على دفع الثمن.
مرت سويعات اليوم بسرعة وكما أشرقت الشمس بهدوء غابت من جديد عن الأنظار تاركة خلفها ذات الشال البرتقالي اللون وكأنها تجبر الجميع على تقفي أثارها، كان الموج يرتطم بالصخر فيحدث رنة تعود عليها كل من في الحي بهدوء. واختفت الشمس داخل المحيط واختفى صوت المحيط في أسماع الجميع وظل الربيع يتخبط بين هذا وذلك ، يموت حينا ليستيقظ مرة أخرى، وما بين الموت والحياة كان يخلف ولادة جديدة لشخص اسمه....





هبة الله