هاجرتْ بنا الطرق .. تلوت بصمت مبتعدة بنا عنا، وتبعناها دون أن ندري! واليوم أقرؤك فلا أدري أعرفتك حقا أم لا، ولا أدري إن كنتَ عرفتني؟! تبسمْ؛ فحبيبنا المطر يقرع زجاج نافذتي ، والرعد يستدعيني نبضا تلو آخر، وتبسم؛ فكلما كدت أنسى يذكرني كل شيء.. حتى قصاصات الورق التي يلهو بها النسيم، وتبسم؛ فكلي شوق لارتشاف عبير ابتسامتك.

وشكوتُكَ له -ليس اليوم فقد أشحت عني ولم يعد ثمة ما أشكوه أو أرجوه- منذ زمن بعيد شكوتك له فلم يصمت لحظة ، لم يتردد ، كأنما كان ينتظر أن أتمتم بالكلمة الأولى: ارحلي .. إن لم يبذل المستحيل لتبقي فهو ليس جديرا ببقائك.
وصمتَ تماما بعدها، وأنا صمتُ طويلا وترددت طويلا، ثم عدتُ بهدوء أتلمس دفء روحك.. لأجفوها بعد ذلك بزمن وأرحل ببطء محاولة أن أنساك، لكنني فشلت!
يسعدني أنك نسيتني، ونسيت قهوة الصباح التي كانت من حكايانا. يسعدني أنك تحيا!

تعرفني جيدا، أو لعلي أتوهم أنك تستطيع التقاط أدق الذبذبات حتى المنبعثة من وراء أضلاعي!! لكنك على أي حال تعرف كم أشتهي ارتشاف كلماتك، وتعلم أنها تظمؤني أكثر من أن ترويني؛ فتقبل علي حتى أدع الدنيا من بين يدي وأهفو إلى ريك، حينها فقط تدبر عني وتجفوني وتتركني ظمأى! صرت أخشى أنك تريدني تبعا لك دوما، وظلا لقلبك أبدا. صرت أخشاك مع حبيك، فمن أنت لي؟ ومن أنا؟
هلا أجبتني ثم هجرتني الدهر كله؟!
تكفيني يا بحر دوامات الحياة

أخيرا عدتُ إلى دمشق، طفلة أكثر مما كنت، ضعيفة أكثر مما كنت، هشة أكثر مما كنت، حالمة أكثر مما كنت. وعدت إلى دمشق، أكثر شوقا إليك مما كنت، وما كنت أتخيل أن أعود إليها دونك وحدي! عدت لأجدها وكأنها هي! يفزعني ما صرتُ إليه وما صارت إليه دمشقي!
تفزعني الأحلام التي أغرقتني وهي تعود متدافعة إلى قلبي كأنها المد يبلل رمل الشاطئ الذي جف فرسم شقوقا غائرة كهلة على وجنة الأرض، أحلام لم أتوقع أنها لا تزال ترقد في عتمة زوايا مهجورة في ذاكرتي، كنوز بريئة تافهة! تافهة ككنوز الأطفال السذج.. تافهة كأحلامهم المغرقة في الخيال.. تافهة كأحزانهم الصغيرة التي سرعان ما ينسونها! لكنني لست سرعان ما أنسى وإلا لكان طاب لي نسيانك!

أتعلم كم أخشى هذا المكان الواسع الذي أمنحكه في قلبي وروحي! كم أخشى هذه المحبة والأمومة التي أدخرها لأجلك، والتي عجزت عن منحها لسواك! كم أخشى قدرتي الغريبة على الغفران رغم كل شيء، رغم الطعان الغائرة التي تركتها بهدوء في قلبي قبل أن ترحل وقبل أن ترسل منذ قرابة السنتين، وبعد غياب قرابة ثلاث سنين.. فتعنون رسالتك بـ (على جسور النسيان)! أكنت تخبرني أنك نسيت من قبل أن ترحل؟ أم كنت تسألني هل استطعت أنا النسيان؟!
يالله!!
آلمتني الكلمة حينها لأني خلتها موجهة إلي، لكنها تؤلمني الآن أكثر حين يخيل إلي أن فيها سؤالا! كنت أؤمن أنك تعرفني، والآن أتساءل فيما إذا كنت عرفتني حقا، أو أنا عرفتك!! كم يؤلمني أنني هنا، حالي كحال العُجَّزِ.. أواسيني بالذكرى، وأتلهى بالأحلام وخيوط النور المنسلة إلى قلبي من كوة عتيقة يكاد يدفنها غبار النسيان! وأنني كلما كدت أنسى أعود فأجدد الذكرى وكأنني آبى التحرر من بقايا طيف رحل دون أن ينوي العودة أو يترك لها باباً. ولعلي فحسب أحب خيالا أنا من رسمه، ولعلي أعلم أنه خيال.. فأتلهى بالأمل فيه ريثما أجد اليأس منه!!!