كان هناك جالسا...
ليس كما رأته ماجدة الرومي،بمعطفه الأنيق،يتصفح الجريدة ويذوب قطعتين في الفنجان،بل كما رأيته أنا .. شاحب الوجه،غائر العينين،نحيل البنية،جالسا فوق صخرة
أمام البحر،واضعا كفيه على خديه،مرسلا نظره إلى المدى الممتد،حيث لا شيء يوقف زفراته الملتهبة كالجحيم.جلست إلى جانبه،لم يستشعر وجودي،اقـتحمت
خلوته عفوا جحيمه المتسعر،حين بادرته بسؤالي:
ـ ماذا قال لك البحر؟
ـ البحر لم يقل شيئا..ربُّ المعمل هو الذي قال..
ـ ماذا قال ؟
ـ قال لي : اِشرب البحر..لذا جئت البحر لأسأله كيف يمكنني أن أشربه ..
ـ وهل وجدت طريقة لذالك؟
ـ هناك طريقة واحدة،أن يشربني البحرويقذفني إلى الشارع،عفوا الشاطئ جثة هامدة،يحنطني أطفالي بنظرات الشفقة حينا وعبارات النقمة و السخط أحيانا،وتعمدني
زوجتي بكافور المواساة والدعاء،ماذا يتبقى من الجسد حين يصير بلا يد تمتد إلى الجيب،لتعطي هذا وذاك،لتحمل إليهم قُـــوتهم، قٌــــوَّتـــهم...
ـ وماذا ستفعل الآن؟
ـ لا أدري ربما سأشرب البحر...ولكن لماذا جئت أنت إلى هنا؟
ـ لا شيء سوى أن الجلوس أمام البحر هوايتي المفضلة.
ـ إذا عليك أن تعيد النظر في هوايتك يابني، عليك أن تتعلم هواية أخرى...
ـ مثل ماذا ؟
ـ مثل العزف على القانون،وإذا فشلت فستكون مجبرا على تعلم الرقص على الجمر مثل الغجر، أو شرب البحر مثلي..
حاولت أن أستفسره عن أبعاد كلامه،لكنه عاد إلى الصمت المطبق،والتحديق الممتد في المدى،تركته ،وعدت إلى نفسي أستفسرها علها تهتدي إلى ماكان يصبو
إليه ذلك الرجل،لكنها زادت حيرتي حين سألتني:لماذا لم تصارحه بأنك مثله،تريد أن تشرب الأبيض المتورط،كي تعبر إلى الضفة الأخرى،أوربما الأخيرة،لماذا
لم تخبره أنك مثله تنتظر الإجابة عن السؤال نفسه: تشرب اليم أم يشربك؟
السؤال مهنتك الأولى،وهذا الحبر الممتد إلى أقصى حدود الروح،لم تعد تسكرك حكايا الجدة،لكنك مازلت تعشق التفرس في العهن كلما صاح ديك السلالات.اِحك
فرغم انسداد الأفق كلما فتحت سيرة الريح ينفتح ممر للحكي،وتخرج فاطمة من ذاكرة الأبنوس مفعمة بعطر الأبدية،كم كانت تعشق موسيقاك حين كنت تدندن على أوتار
القلب وتقاسمكما التقاسيم لحظة البوح اللامشروط،مازلت أتساءل كلما داهم الماء وجه الحديقة../..الحقيقة..أأخلفت فاطمة موعدها؟ أم أخلف الموعد موعده فلم
تلتقيا قط ؟مازال يفصلك عنك عالم من الضوضاء وصراع الأضداد،لست مثلهم،ليت لك العيشَ بعيدا عن مساحة تصادمهم،لكن ماذا عن بريخت الذي يقول :
"عش لتواصل الصراع..أو مت ليموت بموتك."؟ مرة أخرى أنت أمام خيار صعب، فماذا تختار؟
لم ينقذني من ورطة الأسئلة سوى صوت الناذل وهو يسألني :
ـ ماذا تشرب يا سيدي ؟
ـ أشرب البحر.. عفوا..فنجان قهوة لو سمحت.