جلست وربطت الحزام وحاولت الاسترخاء , ولكن أنَّى لها أن تسترخي ـ صوت الأزيز يملأ أذنيها , لم تعرف هل هو صوت يأتي من حولها أم هو صوت نابع من تضارب وتصارع الأفكار في رأسها والتي تكاد تشل قدرتها على التفكير .
غشيت وجهها سحابة من الحزن, وحلقت تستجمع شارد أفكارها. لقد كانت تعيش حياتها كلها في هدوء ورتابة , صحيح أن الشعور باليتم كان يؤلمها أحياناً كثيرة فقد توفي والدها وهي بعد صغيرة ـ هذا ما عرفته من أمها التي كانت كل حياتها, رغم إنها كانت تشاهدها على شاشات التلفاز أكثر مما تشاهدها في المنزل, فقد كانت سياسية معروفة وكاتبة مشهورة ـ وقد أخذ عملها جل وقتها ولم يترك لها إلا الفتات.
نظرت من النافذة التي بجوارها , كانت نتف من السحاب تسبح حولها , إلا إنها أحست وكأنها تائهة في صحراء قاحلة بالغة الصعوبة تمتد حولها من كل مكان.
انسابت دموعها وأحست بعمق الوحدة والخوف, وشعرت ببرودة تنخر عظامها فليس هناك أصعب من أن تفقد حبيباً وتعرف إنه لن يعود أبداً.
تبدى الإعياء في عينيها , وعض الألم قلبها واختلج بدنها وهى تتذكر أمها وهي في النزع الأخير في مرض سريع أصابها ـ وهزت كلماتها القليلة أعماق روحها...
عانقتها وقبلتها وغيبتها في أحضانها وارتفع نشيجها وهى تقول: ابنتي .. سامحيني واغفري لي .. ماتت من كانت محور حياتها .. فعاشت من بعدها أياماً مجنونة بحزنها, مترنحة بفجيعتها.
جاءت المضيفة بالطعام فرفضته, وطلبت فنجالاً من القهوة .. جلست تراقب البخار المتصاعد منه وتنهدت بعمق وهى تتذكر كم ظلت في حيرة من أمرها , والكلمات تتخبط في رأسها .. سامحيني واغفري لي ـ حتى جاءها المحامي طالباً مقابلتها
قال لها : لقد تركت لك أمك هذه الرسالة , وطلبت مني أن لا أعطيك أياها إلا بعد رحيلها.
وبأصابع مرتعشة فتحت حقيبتها الصغيرة وأخرجت الرسالة , وأخذت تقرأها من جديد وهى ترتعد...
ابنتي الحبيبة..
أشعر أن نهايتي قد اقتربت, فالمرض يسري في جسدي سريان النار في الهشيم ـ حاولت أن أخفي عنك مرضي لمدة طويلة , ولكني أعلم إنه القصاص الآلهي لما فعلت بك وبه. واسمحي لي أن أقص عليك القصة من البداية....
أحببت أبيك ورغم اختلاف جنسياتنا فهو من بلد آخر, ورغم ممانعة والدَّي فقد صممت على الزواج منه , وأصررت على هذا الزواج كطفلة لم تتعود أن يرفض لها طلب . وسافرت معه وأنجبتك هناك ـ ولكني كنت أحمل نفساً طموحة, ورغبة في العمل الصحفي والسياسي وذلك ما لم استطع تحقيقه في تلك البلاد ـ فانتهزت فرصة أول خلاف بيننا وهربت بك عائدة إلى الوطن.
وقد جن جنون والدك خاصة وإن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين كانت منقطعة في تلك الفترة فلم يستطع اللحاق بنا ـ وبدأت في العمل والكتابة في الصحف وبرزت كإعلامية , ولكي أقطع عليه خط الرجعة احتلت لكي أدرج أسمه في قائمة الممنوعين من الدخول إلى البلاد.
أفهمت يا حبيبتي لم طلبت منك السماح ـ لأني أجبرتك على العيش يتيمة بلا أب برغم وجود أبيك على قيد الحياة.
أحاول في أيامي الأخيرة في الدنيا أن أصلح ما أفسدته لعل الله يغفر لي ـ اتصلت به وأخبرته كل شيء عنك ـ ستجدي عند المحامي العنوان وتذاكر السفر , وسيكون هو في انتظارك بشوق العمر كله.
أمك البائسة الطامعة في غفرانك.
أغمضت عينيها فقد بلغ من عمق الألم الخارق الذي كان يغوص كالأنصال الباردة في قلبها المطعون ـ فأطبقت أسنانها حتى لا تفلت منها صرخة.
بعد برهة فتحت عينيها وكأن الجو قد شحن بشحنات تتراكم ـ وقد أشرق نور فجأة في أعماقها , وقد ظهر من العدم شبح لرجل لم تعرفه يوما ـ وكأنها في حلم من أحلام اليقظة .. ترى هل كان يجب أن تموت أمها لتعرف أباها.



رد مع اقتباس


