" وأبحرتْ سفينتة العمر "


( ليس هناك أحدُ بنيتي في هذا الكون يستطيع أن يتنبأ بالغد ؛ ولو علمت نفس ماذا تكسب غدا ؛ أو علمت أخري بأي أرض تموت لتزودوا من الخير ..
و لكنزوا الحب في صوامع الشوق ؛ و ادخروا من العشق وقت فيضانه تحسباً لأيام حبس مطر الهوى ؛ وتقشف المشاعر ؛ وانهيار"سد مأرب" العشاق .

" شكرتٌ العرافة وخرجتُ انفض ُ من رأسي خرافات السنين ؛وتعجبتٌ من عرافات آخر زمن ؛ لم تطلب مني خصلات من شعري ٌ أو تتمتم فوق رأسي تعاويذ الباطل ؛ أو تعطيني شيئاً أدفنه عند عتبة الدار..

خرجتُ وأنا أحاول أن أتذكر قطار عمري ؛ الذي مرً عليً وأنا أقف في نفس المحطة ؛ بلا حب أو انشغال عاطفي أو مغامرة كالمراهقات ؛ أو اختلاس قبلة مع ابن الجيران ؛ الذي ينتظرني في الشباك كل صباح ..

أنا لا أستطيع أن أحسب عمري ؛ فسنين عمري التي مرت بلا حب ؛ كانت عجافً كسنين يوسف ؛ حتى احتلني هذا الرجل في وضح النهار؛ وأمام الناس وعلي مرأى السمع والبصر .
في حادث سير بسيط بسيارته المتواضعة ؛ حيث كاد يصدمني أثناء سيري في ملكوت آخر عبر شوارع ذاكرتي المرهقة وأنا أدندن عبر سماعة الأذن أغنية ..
( يُسمعني .. حين يراقصنى .. كلمات ليست كالكلمات..يأخدني من تحت ذراعي .. يغــ.. ) ولم انتبه لمروره فحاول تفاديً فاصطدم بعمود الكهرباء بعدما أفزعني؛ فوقعتُ علي الأرض من هول المفاجئة..

ولم يمسسني بسوء بينما اصطدمتْ رأسه بمقود سيارته فنزف قليلاً من الدماء ؛ نزل مهرولا من السيارة ؛ ( أأنت بخير يا آنسه ) لملمتٌ فزع نفسي وهدًأتُ من روع قلبي الذي تعالت نبضاته .
أقبل ملهوفاً مسرعاً منزعجاً يأخذ بيدي ؛ لكن المارة في الشارع لم يمهلوه ليفعل أي شيء ؛ وانهالوا عليه سباً وشتماً ؛ وحاول بعض الشباب أن يعتدي عليه بالضرب .
وهو واقف لا يحرك ساكنا ولم تنطق شفتيه إلا بجملة واحدة ( يا جماعه ؛ أنا موجود ؛ ولن أذهب ؛ ولن أهرب ؛ فقط أهي بخير؟ ؛ دعونا نأخذها إلي المشفي .)
موقف أشبه بأفلام السينما ؛ وروايات الخيال "الرومانسية" ..

مرت حياتي كلها لم أرى رجلاً في حياتي ملهوفاً علىً.. بهذه الطريقة حتى والدي ولي إخوة من الرجال أربعة وثلاث من البنات كلهن تزوجن خلاي وبقيتٌ وحدي هاهنا أما سيارته.
أتمني أن يذهب الناس من حولنا ؛ تمنيت أن لم يأتوا أصلاً ؛ ويتركوه يأخذ بيدي ؛ لتلامس أصابعي دنياه ؛ وتذوب أناملي في راحتيه ؛ ويضم ارتعاشه يدي ؛ بحنان كفيه .
ويضمني بألق حنانه اللامع في عينية الخجلي ؛ وهو يطالع في الأرض قائلاً : ( حمداً لله علي السلامة يا آنسة ؛ أأنت بخير ؟ )

حاولتُ الوقوف علي قدمي بمساعدة ؛ إحدى السيدات وهي تقول:
( لا ..لا ما شاء الله ؛ خير يا بنتي ؛ قدر ولطف أنت زى الفل ؛ عن إذنك يا حبيبتي أصل عندي مشوار مهم ؛ و أتأخرت قوي )

وعاتَبَتْهُ قائلة :
( وأنت يا سى الأستاذ علي مهلك شويه يا خويا وأغسل وشك بشويه مية ؛ سلامو عليكو)

لستُ أدري هل أنا أحلم ؛ أم أنا أقف علي قدمي؛ أمام رجلٌ لا أعرفه .. وكأنني أعرفه منذ سنينى الأولي ؛ انتبهتُ لخيط الدم الرفيع الذي سال فوق جبين يشقَ سُمْرَتَهُ الحزينه .
أخرجتُ من حقيبة يدي ما يمسح به جبينه ؛ ومددتُ ؛ يدي الرعشى نحوه ؛ وعيناي الخجلى تسترق النظر إلي عينية ؛ مد يده نحوي ببطىئ شديد .
وهو يطالعني ويغمرني بهالة من نظرات عينية الحانية سَرَتْ في جسدي قشعريرة ؛ كأنها مسُ كهربائي فانتفض جسدي حين قَبَلَتْ أناملي ؛ أنامله الندية .

أخذ من يدي المنديل ؛ وأخذ معه سنين العمر التي مرت دون أن اعرفه ؛ جردني من مشاعر الغربة التي كنت أعيشها ؛ وطَهَر قلبي من يأس دب في أوصالي واستفحل .
هذا الرجل ملكني في لحظات ؛ أخذ المنديل وهو ينظر إليً مستغرباً ؛ فأشرت إلي جبينه ولم أنطق وكأنني خرساء ؛ فانتبه ومسح بقايا الدم الجاف فوق جبينه ..

أأنتِ بخير..؟
قلت : نعم
وخَرَجتْ الحروف من بين شفتاي ؛ جوفاء جرداء يابسة كأنها الصحراء ؛ لا زرع فيها ولا ماء ؛ وتحشرجت في حلقي الكلمات..

فقال : " آنسة .. أأنت بخير"
نعم نعم أنا بخير..
الحمد لله .. أنتِ تنطقين .. حسبتك..
أجبتهٌ وحروفي باسمة : خرساء .. أليس كذلك ؟
أنا آسف .. لم أقصد ... أنا ..
لا عليكَ بسيطة ..

ورسمتُ فوق ملامحي بسمةَ منذ فجري الأول ؛ لم اشعر بها ؛ وأشرقت الشمس فوق ذاكرتي وأزهرت الورود فوق وجنتي وطرحت أغصان الياسمين فوق جبيني .
هل هذا هو الحب ؛ أهكذا هو ؛ أهكذا حلاوته ودفئه ؛ وقفتُ أمامه ؛ لا أعرف أين أروح أو أين أذهب ؛ أين أنا كنت ذاهبة..
مر عمري هكذا وأنا أمشي في هذه الدنيا ؛ أبحث عن حب يحتل قلبي ؛ عن عشق يستعمرني ؛ وها هو أمامي .. أحبك يا رجل.. أحبك هل تسمع صوت قلبي .. هل تسمع نبضاته تصرخ بداخلي ..؟

وقفتُ في مفترق طرق أمام عينية ؛ هل أتركه يرحل وأبدأ رحلة البحث عنه من جديد ؛ ربما أجده .. وربما لا ؛ ولكن كيف أخلع عن أنوثتي عباءةَ خجلي وحيائي ؛ كيف أعترف له أنني أحببته الآن ..؟
كيف ألقي في أحضانه تعب السنين وإرهاق العمر..؟ كيف أُريحُ يداي في راحتيه ؛ فأنا متعبة من طي صفحات أيامي ؛ مللتٌ من رسم الأمل في دواوين صبري الذي انتحر الآن أمام سيارته..
أحبك أيها الغريب ؛ هل تفهم لغة العيون ؟ هل تقرأ سطور الشوق فوق الشفاه البكر ؟ هلاً سطرتَ أول حروفك هنا .. مابين العليا والسفلي .. ألا تود قطف الثمار الأولى .. آه ..

ما بكِ أستاذه ؟ أهناك شيء يؤلمك ..؟
نعم ...
أين ..؟
قلبي..
ألفْ سلامة لقلبك..
أنذهب للمشفي ..؟
سأذهب معك إلي أي مكان ؛ أريد فقط أن أكون معك,,
أسرع إلي سيارته يحاول تشغيلها ؛ وهرولتُ إلي جواره من الباب لآخر قبل أن يسرق مني الزمن هذه اللحظات ؛ حاولت فتح الباب ؛ لم يفتح الباب ؛
فاجئني لا تقلقي : سأساعدك ..
كادت روحي تروح ؛ لكنه سرعان ما انتبه لحيرتي بل وأحس بكياني كله ؛ هذا الرجل يسمع صمتي ؛ وينصت إلي دقات قلبي ؛ هذا الرجل يفهمني ؛ هذا الرجل أحبه..
وانطلقتْ السيارة بعد عناد من أثر الصدمة وجلست ٌ بجواره .. لا أعرف اسمه وهو لا يعرف ؛ لا يعرف كلانا أي شيء عن الآخر.. انطلقت السيارة ..
كان يمسك بمقودها بكلتا يديه ,, وينظر إلي الطريق راسماً علي وجه بسمة الجورى في الحدائق ؛ وفي عينية ألقُ باسم ؛ وأنا بجواره كالطفلة .,
تَبَرَعَمَ عمرها الآن , وانطلق قطارها من المحطة الأولي وأبحرتْ سفينة عمرها لتوها إلي بحر لجي يغشاه موج من فوقه سحاب..

ووضعت سماعة الأذن مرة أخري وأنا أدندن.. ( وأنا كالطفلة في يده .. كالريشة تأخذها النسمات..)