يومُ عيد


كادَ من سعادتِه أن يقفزَ قلبُه من مكانِه , مرّتْ ستةُ أيامٍ وهو ينتظر , والآن , لقد جاءَ الحدثُ الموعود
إنه يومٌ ليس كباقي الأيامِ , إنه يومُ عيد .
ارتدى أحسنَ ما عنده , عباءةً بيضاءَ فضفاضةً يكادُ من بياضِها ينهمرُ النور.
كان أحبَّ الألوانِ إلى نفسِه اللونُ الأبيضُ , لونُ الفُلِّ والياسمين
تعطَّرَ وتزيَّنَ . ثم خرج .
لم يكنْ وحدَه في الطريق , بل كان هناك مِن مِثلِه مجموعاتٌ كثيرةٌ صغيرة ٌوكبيرةٌ تسيرُ إلى مكانِ التجمّعِ المنشود .
توزعتِ الابتساماتُ بينهم كأنها ورودٌ بيضاءُ مهداةٌ في يومِ فَرَح .
وكانت تخالطُ هذه الابتساماتِ ابتهالاتٌ تَعْرِفُها من الشفاهِ التي كانت تتحركُ كما تتحركُ زهرةُ الياسمينِ لامستْها نسمةٌ قدسية.
كانوا يمشونَ على الأرضِ , ولكنّ قلوبَهم كانت تسبحُ نشوى في رحابِ العالَمِ العُلويِّ البعيدِ القريب
وصلَ إلى المكانِ الذي لا يكادُ يغادرُه مرةً إلا وانخلعَ قلبُه حزناً على فراقه
ولكنه كان دائماً على أملٍ بموعدٍ منه جديد .
كانَ كلما خَطَا خطوةً أحسَّ أنَّ أحْمالَه من الخطايا تخِفُّ وأن ميزانَه من الحسنات يَثقُل
وكانت الهمومُ تتبدّدُ مثلَ الدّخان
أما الاطمئنانُ والسكينةُ فكانا سيّدَيْ نفسِه
وعلى البابِ كان في انتظارِه البرَرَةُ الكرامُ أولُو الأجنحة
هو لا يراها , ولكنه يحسُّ بأجنحتها تحفُّه سروراً وترحيباً به .
جَلَسَ وأنصَت ..
ولكنه في هذا المقامِ لم يَشعُرْ بأنّ قلبَه فقط يسبحُ في العالمَ العُلويِّ ....
بل أحسَّ بأنَّ كلَّ كيانِه يطيرُ في السماءِ إلى مكانٍ قدسيٍّ عظيمٍ في موكبٍ من نورٍ يسير بين سُحُبٍ من مِسْكٍ ناعمٍ ومعتّق
وأحسَّ أنه كان في غيبوبةٍ قبل أن يأتي , وهنا في هذا المقام أفاق
هو الآن يرى الأشياءَ على حقيقتها
يرى الألوانَ كما هي
يرى الأمورَ كما لا بدَّ أن تكون
كانت الكلماتُ التي يسمعها لا يسمعها بأذنيه بل كان يسمعها ويعيها بقلبه
وكان ما يراه لا يراه بعينه بل بروحه الخفيفة التي لا تكادُ تطمئنُّ في قفصِ جسمِه إلّا خرجت مسرعةً تطوفُ حولَه كأنما هو الكعبةُ وكأنما هي بعضُ حجيج .
هذه هي أجملُ خطراتِ النفس ..
عندما تغادرُ هذا العالَمَ السفليَّ وترتقي بروحك لتتصلَ بكل جوارحك بالعالم العلويِّ
هناك كلُّ شيء مثاليٌّ وكلُّ شيءٍ في غاية الكمالِ والجَمال

ما زال يحسُّ بأجنحة النُّورِ تحفُّ به وبمن حوله
ما زال يحسُّ أنه أنقى من الثلجِ وأخفُّ من الهواء
ما زال يحس أنه فوق الدنيا , وأن هذه الدنيا لا تساوي عنده جناحَ بعوضة
مر الوقتُ سريعاً كلمح البصر ..
وعندما سلَّم الإمامُ إيذاناً بانتهاء الصلاةِ أحسَّ أنه فجأةً هبطَ من السماءِ إلى الأرض

وجلس هادئاً يبتهل إلى أن بدأ الناس بالخروج .
ثم بعدُ خرج معهم حزيناً .
ولكنه كان يعزّي نفسه بأنه ربما عاش إلى الجُمُعةِ التالية ..
وبأنَّ هناك خمسةَ أوقاتٍ على الأقلّ في اليومِ والليلة في الأيامِ الستة التي تفصلُ بين الجمعتين ...
يستطيعُ فيها أن يتصلَ بالسماء ويشعرَ بكثيرٍ كثيرٍ مما كان يشعرُ به في هذا اليومِ الجميلِ في تلك الساعةِ الجميلة .