جـــــدتي

عندما كنتُ صغيرةً كانتْ جدتي تناديني من حين لآخر وتقول لي ما اسمك ..؟!
كنت أضحكُ حينها ببلاهةِ الأطفالِ .. !!
ثم أُذكّـرُها باسمي ..ليأتي اليومُ التالي وتفاجئنُي مجددا وهي تبلل وجهي الشاردِ بزخاتِ ذاتِ السؤال ..!
فأتساءلُ بدورِي في قرارةِ نفسي :..كيف لجدّتي أن تنسىَ اسمي بهذه السُّرعَة ..؟!!!

وفي إحدى المراتِ جاءتْ من الخارج رأسا إلى أمي مبادرة إياها بسؤالها الغريب :..بُنيتي الحبيبة رحم اللهُ والديكِ ..ما اسمكِ..؟!
لم يكن أمامنا حينها سوى أن ننفجرَ ضاحكينَ ببلاهةِ الأطفال ..ليضيف أخي الذي كان أشقانا قائلا :..
يالها من عجوزٍ ..!! تعرف أنّها ابنتُها ..لكنها تجهلُ اسْمها ..!

واندلقتْ كأسُ الأيام ببئر السنين..وانهمرتْ أمطار الغياب مترقرقةً لتهيم َعلى حدّها مراكبُ الأنْسِ ..والوصَال ..مركبا فآخر ..
توفيتْ جدتي .. وتوفيتْ أمي رحمهُما الله ..وامتلأت قلوبُنا بالهُموم..لأجدَني أقعُ في نفسِ المطبّات...
حيث صرتُ أنادي كل أبنائي حتى أصلَ الإسم الذي أريدُه ..
وذات حنينٍ لماض تولىَّ ..وانبرى - وبقي بعض شميمه يُبللُ صباحاتي كقطراتِ ماءٍ ثرّة-
كنتُ في زيارةٍ لبيت أخي الشّقي ذلك ..وفي خِضمِّ مُناوشاتِ الأطفالِ ، ومؤامراتِهمْ البريئة ..
وجدتُـني أنادي إحْدى بناتي وأقول لها ما اسْمك .؟؟
كانتْ تضحكُ كما كنتُ أفعلُ أنا من ذي قبل ..ثم أُعيدُ ..ما اسمُك ..؟؟
إلى أنْ تملَّكني شوطٌ لابأسَ به منَ الغَضب ..
ما صحوتُ منه إلا على صوتِ أخي وهْو يقول :..ألم ْتجدي شيئا ترثينَه سوى جنونِ جدتِك ..؟

وكم صرتُ أشعرُ بعدها بالانتماءِ لذلك الجنون الأشمّ ..
لأن عظائم َالأمورِ تُولد من لحظةِ جنونٍ بحتة ..فجدتي لم يُصادف يوما أن نسيتْ بيتَها ..أو صلاتها ..
وفي خِضم سؤالها الغريبِ لأمي ..لم تنسَ بأنها ابنتُها.. !! يعني أنها لم تكن لتغفلَ عن اللبِ ..بقدر غفلتِها عن القشور..

فالعابر بالنسبة إليها لا يمكن أن يوَقـّع بذاكرتِها كما قد وقّع مكانُ العبور..لتشعرَ بالانتماء للقائم بذاته دائما..
وليسَ للشيء الذي يحتاجُ لذاتٍ أخرى حتى يُظهر طولَ قامتهِ على حـَـدّ تعرُّجاتها..
فكم هي غريبةٌ موازينُ الحياة .. !!نتّهمُ الآخرين بالجُنون.. ونحن نلبسُه ولا ندري..
لننسى دائما بأن بئس الجراح تلكَ التي لا يعرفُ أصحابُها مدى عُمقها إلى أن تبتلعَهم عنوةً..

ونعم الجنون ذاك الذي قد يصلبـُنا على مِحرابِ الحقيقة ..
ليحسدَنا العقلاءُ على تنكّبه ..ونحن نستأنسُ به زفرة َبوح ٍكم افتقدوها وهُم على مشارفِ جنونٍ حقيقي..
تفصلـُنا عنه لحظةُ صدقٍ هاربةٍ من دفاترِ كذبهم..

فبعضُ الحقائق كثيرا ما تكون موجعةً حدّ الموت في زمنٍ طغتْ عليه الكذبةُ الساخنةُ..
تماما كالوجبةِ السريعةِ التي يحاولُ المرء أن يُسكن بها جوعَه المؤجل ..
ولا يشعرُ بعدَها بالشبع - أبدا - قدرَ شعوره بجوعٍ آخرَ أشدُّ ضراوةً ..ما كانتْ تلك الوجبة ُإلا طـُـعمًا له..

فما أرفعَ الخيوط الفاصلة بين برد ِحقيقتِنا ..ودفءِ كذباتِنا السّاخنة التي نُهدهد بها جراحًا لا يمكن لها أن تطيب..

تعوجُ بي الذكرى دائما إلى جدّتي التي لم تكن فيلسوفةً ..
ولا حتى متعلمةً ..وبالكادِ كانت تحفظ ُبعضَ السور القرآنية البسيطة لتؤدي بها صلاتَها ..
لكنها كانت خرزات عقلٍ مركبة بخيط رفيع من خيوطِ الجنونِ المحلقة كالحمائم البيضاءِ بالأفقِ الرحيب