عنقاء شهرزاد
( الأرض- الشعب)

أيتها العنقاء الباذخة..

مدّي جناحيك، وظللي قهرنا، وازرعي فينا ريحان الأمل.. من قلب العتمة ينبثق الفجر ليملأ الدنيا نوراً تتجدد معه الدماء الأكثر عطاءً. ومن نسيج الظلام حاكت العنقاء خيوط نور تحلّق إليها بقوة استمدتها من رماد الأرض، ومن العدم .. كان العود.. حضنت العنقاء آلام شهرزاد ومسحت جبين صباحها بورقة غار، فأضاء المكان.

- أيتها الحبيبة.. لا تبكي.. هم رجال وهبوا دماءهم الزكية عرابين وفاء، ليهبونا الحياة، التي نستحق.
هناك على ضفاف دجلة تتطهّر الأرواح.. وفي بيسان صبية تهد بصمودها جدران من اغتصبوا أحلامها. لو تسألين الأيام .. كم من شهيد ارتقى ليمسح دمعة مقلتيك، فزُفوه إليّ.. من قانا تعلم الرجال بأن الحب عطاء، والإيمان فداء. فحققوا ما أرادوا، وتقهقرت جحافل من ظنوا أنهم الباقون على شقاءنا، يجرون ذيول الخيبة والخسران، فارتسمت على الجباه أكاليل النصر. هل تسمعين يا شهرزاد بولادة أمة من فاجعة الرماد!.

ـ تراني أحلم!.. وما كنت غير بشر اختزل في صدره أوجاع الأمة. فانتبذت مكاناً قصياً أعتزل فيه، لملمت بقايا ضفائري وجمعت حروفي المتكسرة. أبكي ليلي الطويل، وأنعى بالنهار نكبات تتوالى، فقدت عزيمتي واستسلمت لوديان اليأس.

ـ ما عهدت فيك ضعفاً، ألم يخضّب التتار ماء دجلة بأحبار كتبك؟، ولم تستسلمي.
صرخت.. وانجدتاه.. فجاءك الركبان على أجنحة الصمود، وفكّوا عن معصميك القيود، فانتصبت قامتك أكثر شموخاً.

ـ أيتها الأسطورة، على ثوابتك تقفين، وتحت وارف ظلالك نستمد الدفء..

ـ باقية.. أنتظر فرسان الخلاص، أعيد كتابة التاريخ، ولو عاندتني الأيام، وغدر بي اللئام، وأدار وجه الزمان عني، سأخطّه في الصخر حروف الأديم الأزلي..أبنائي سيخرجون من باطن العتمة، على جباههم وشم الأنفة والكبرياء، يقسمون على الوفاء.. ونبدأ من جديد.

ـ يا أم .. بائسة أنا، والقهر يطحنني. رحى تدور على أنقاض كل ذي صاحب فضيلة.

ـ لماذا لا تكونين قطرات ندى تغسلين آثام الآنام؟، فاعتصمي معي بحبل الله، وتوحّدي مع ذاتك كي تنهضي قوية. خذي زهوري وطيوري وتزيّني بها، وزغردي لملحمة يخرج منها الحي بعد الموت، مارداً لا يعرف المستحيل.

لوثة حزن نالت من قلب شهرزاد وأدمت أحلامها. راحت تبحث عبثاً عن مخبأ، تواري انكسارها لحين. العنقاء تلاحقها أينما ذهبت، لتنسج مصابيح أمنيات، وتعيد الحياة دورتها مع كل فجر آتٍ من ظلام دامس..

ـ نسجت حكاياتي من بطولات النشامى، ومن ألف ليلة وليلة أطلقت الإنسان من أعماق أميري، فُولد وتوجته قمراً أضاء ظلمة ليلي، وجعلته وطناً فيه سكينتي.

ـ هي أنت التي أعرف، ما زلت كما عهدتك، لم تصغرِ أمام النوائب، ويتجدد في الشرايين نبض العزة والإباء. ها أنتِ تزرعين فيحصدون، فلا تبخلي بالعطاء إلى من جاؤوك كرماء، الآن أنتِ لست وحدك، في لياليك تصبح الأقاصيص حرث، ويعاد الحصاد في مواسم وفصول ...

ـ عجباً لسيدة الكون، كلما سالت الدماء قويت أكثر، وأحببناها أكثر..
توضّعت على قمم الروابي، وأعالي الجبال، وفي السهول والوديان أزهرت فرساناً أشداء، ليكسروا أصفاد قيودها، وينفضوا عنها غبار الزمن، فليشهد المكان ذلك الالتحام القدري، يعلن ولادة الهمّة والإرادة.

أيتها الأسطورة الحية.. لن تموتي ما دام هناك من عاهد وصدق.. سيعودون رافعين بياريق أقصانا عالية، ليعلنوا أنهم منك وإليك، وسأفك ضفائر اليأس، وننعم بكل خفقة جناح ظللت أمانينا، ثم نرفع رايات الفرح ترفرف فوق أحلامنا، وأكاليل أغصان الزيتون يزينون ربوعك سيدتي.. وطني وسيدة كل العصور.