التهمت زوجتى ثلاثة أزواج من الحمام المحشوة بالفريك بالتمام والكمال هذا إلى جانب بعض التحابيش مثل الأرز بالخلطة المكونة من الزبيب والبصل المحمر والصنوبر وعين الجمل المضاف إليه اللوز المقشر المحمر فى السمن البلدى مع طاجن خضروات مكتنز بقطع اللحم الضانى غير المشهيات من السلطات والمخللات وعدد من قطع الرقاق المحشوة باللحم المفروم.. تصل إلى نصف الصينية.. هذا تقريبا مالتهمته زوجتى ليلة الدخلة.. نعم أؤكد أن هذا ماحدث فعلا ليلة الدخلة.. الحق أنها لم تلتهم هذه الوجبة دفعة واحدة ولكن منذ بدأت فى تحضير الطعام لنا وقد بدأت تتسلى بالوجبة قطعة قطعة.. أثناء إعداد الطعام ووضعه على المائدة , وبعد أن انتهينا من الأكل , وأثناء رفع الطعام من المائدة.. الحقيقة أنني لاحظت هذه الحكاية ولكنى خجلت أن أنبهها وخاصة ونحن فى بداية زواجنا ورحلته التى لم تبدأ بعد.. ومن المطبخ سمعت صرخة هائلة عرفت ساعتها أنها اضطرت للتوقف عن التهام الأكل.. وبكل الخجل لم أجد مفرا من استدعاء أحد أصدقائى الأطباء ليسعفها , وفى سرية تامة أجرى لها غسيل معدة وجلس بجانبها حتى الصباحية.. أقصد حتى الصباح.


أستطيع أن أقص عليكم ببساطة شديدة عددا من نوادر زوجتى فى الأكل التى قد تملأ مجلدا.. ففى السنوات التى تلت زواجى حدثت مواقف لاتعد ولا تحصى كان أغربها عندما كنا فى وليمة عند أحد الأصدقاء وتركت الطعام وأمسكت بنصف عظمة الماسورة وظلت تتبع بملعقة صغيرة قطعة نخاع داخل الماسورة فقد كانت تعشق كل ماهو دسم.. وأجهدها ذلك جدا حتى ألقت بالملعقة فى عصبية.. وكانت المفاجأة عندما وضعتها على فمها وراحت تشفطها مصدرة نغمة صوتية غريبة التفت لها الجميع.. ويبدو أن حكاية الشفط قد نفعت معها فراحت تبحث عن عظمة أخرى لتعزف عليها مقطوعة أخرى.. ولم تستجب لتوسلات عيونى أو تلميحى وعندما اضطررت للوقوف والاستئذان فى الانصراف هروبا من هذا المأزق المرعب رمتنى بنظرة نارية اندلعت على أثرها معركة حامية الوطيس فى منزلنا.. رمتني فيها بالبخل والتقطير وأننى لا أحب لها الخير وأتطلع دائما لما تأكله وأنها تعيش فى بيتى فى حالة من الجوع الدائم.. صارخة أنها لو كانت تعيش فى الصومال نفسها لأكلت أكثر مما تأكله فى بيتى.

عندما خلا لنا عشنا الصغير للمرة الأولى.. كانت ككل البنات تقطر خجلا يذيب المشاعر ويحولها لطاقة هائلة من الحب والدفء والحنان.. تبادلنا الخجل قليلا وأحببت أن أكسر هذا الخجل بكلمة فقلت لها مازحا أنا جائع جدا منذ الصباح لم آكل شيئا.. ألا يوجد طعام هنا أم نسينا الجميع؟ ولم أدر أننى تفوهت بكلمة السر والتى طارت بعدها الفراشة محلقة ولم تعد حتى الآن.
كل محاولاتي معها باءت بالفشل الذريع.. فهى غير مقتنعة ابتدءا أن لديها مشكلة.. ومن هذا المنطلق لم يعد لكلامى ولا محاولاتى أى معنى ذا بال خاصة وأنها عندما تستمع لكلامى لاتعيرنى أى انتباه.. أو تغير الموضوع ببساطة متناهية.. كل تهديداتى لها قابلتها بلا مبالاة غريبة.. أعيتنى الحيل كلها فى أن أستعيد فراشتى ومن ثم فقد تعودت على السكن مع فيل متحرك يلتهم يوميا كميات غير محسوبة من الطعام والشراب.

ثم بدأت مشكلة جديدة تطرأ على حياتنى وتؤرقنى بعد عدة سنوات من زواجنا أنها تمددت وانتفشت حتى صار السرير لايكفينا نحن الاثنين.. فما إن يداعبها النعاس حتى يرتخى جسدها المكتنز بالشحم ويتضعاف حجمه ويكثر تقلبها فى السرير فلا مانع من أن أنال صفعة على وجهى.. أو لكمة فى أنفى أو زغدة بكوعها.. وليس من الطبيعى أبدا أن ينام الفيل مع حارسه فى سرير واحد وإلا ستنتهى الحياة بمأساة.. ومن هنا بدأت أفكر فى حل هذه المشكلة على الأقل.. ففكرت فى أن أترك لها السرير وأنام على الأرض فرفضت حتى مناقشة الموضوع.. بعد عدة أيام من الأرق اقترحت عليها أن تنام مع الأولاد فبكت بكاء حارا على حبنا الضائع ورمتنى بالخيانة بعد كل هذا الحب الذى عشناه سويا.. ثم بعد فترة من اللكم والضرب على الوجه اقترحت بكل تودد وأدب أن أشترى سرير آخر فى نفس الغرفة.. فرفضت وأعلنت أن نومها بجانبى استراتيجية حياتية لا يمكن أن تتخلى عنها أبدا فقد تعودت منذ ليلة عرسنا أن تنام على ذراعى.. وأصبح ذلك حقا مكتسبا لايمكن أن تتخلى عنه.. حاولت إفهامها بأننى أعانى معاناة شديدة ولا أستطيع النوم فى هذا الحيز الضيق الذى تخليه لى من السرير.. ساعات طويلة جلست أناقشها ولكنها كانت كالحجر الصوان لم تسمع ولم تفهم ولم ترض بأن يتغير من الأمر شيئا.. بل وفى تلك الليلة أراد أصغر أولادى النوم بجوارنا فقالت له بلامبالاة قاتلة تعالى حبيبى فى حضن ماما.

فى الفترة الأخيرة وباكتناز كمية وافرة من الشحوم أضافت لمعركة النوم المتواصلة شخيرا متواصلا ومتنوع النغمات والتقسيمات.. يبدأ عادة مع الإغفاءة الأولى لها ثم ترتفع نبرته متحدية الصمت والسكون الليلى الذى جعله الله للسكينة والراحة والهدوء.. ثم تبدأ الآلات النحاسية فى منافسة حامية مع آلات النفخ بين الشهيق والزفير لا يكاد يتوقف إلا عندما أضطر لإيقاظها لتعدل من وضع رأسها فتسكت قليلا ثم تعاود رحلة العزف.. وهكذا استسلمت مرة أخرى ولأجل غير مسمى وبدون أى تصور لما سيؤل إليه المستقبل.

كانت القشة التى قصمت ظهر البعير وكسرت حاجز الصبر حين تلقيت رفسة هائلة من قدمها وهى تتقلب فأطاحت بى على الأرض فصرخت من الفزع ولكنها واصلت نومها ببلادة متناهية مع استمرار السيمفونية التى بدأتها مع نومها كأن شيئا لم يكن.. فقمت واقفا مواصلا صراخى فيها حتى أيقظتها فقامت فزعة فواصلت صراخى فيها قائلا هذا السرير إما لك أولى أما أن أنام بجانبك بعد الآن فهذا مستحيل أن يحدث.. وواصلت صراخى فى وجهها حتى فوجئت بها تبكى بكاء حارقا جعلنى أسكت تماما.. ثم زفرت وهززت رأسى قائلا أنا آسف جدا غصب عنى.. فقالت أرجوك استدع الإسعاف أمعائى تتمزق.

وفى المستشفى واجهت نفس المشكلة الكبرى التى أواجهها أمام الطبيب كل مرة عندما يسألنى ماذا تناولت زوجتك على العشاء؟ كانت زوجتى فى تلك الليلة قد عزمت على أن تكنس الثلاجة من أنواع الطعام المتبقية من بواقى الأكلات الأسبوعية.. ولأنها تعمل بمثل يقول يحمى على القلب ولا يبيت فقد أخرجت زوجتى أنواع الأطعمة المختلفة وجلست أمام التلفزيون وتناولت صنف صنف تأكله باستمتاع منقطع النظير.. ماذا عساى أن أقول للطبيب.. فوقفت حائرا خجلا.. فقال الطبيب على العموم اطمئن حالتها مستقرة ولكنها ستبقى فى المستشفى عدة أيام حتى نطمئن عليها

مفاجأة مذهلة.. طرت بها سعيدا سعادة غامرة.. حق لى أن أنام ليلة هانئا فى سرير واسع مريح.. سأنام يوم كامل.. لالالا سأنام يومين متواصلين.. سأستغل كل فترة فراغ فى التمدد بكل قواى فى هذا الفضاء الفسيح المسمى السرير.. جزيرة القطن يا أجمل جزر الكون أخيرا سأنفرد بك.. سأعتذر عن كل مواعيدى وسأتناول طعامى فى السرير.. كل أعمالى الكتابية سأنهيها فى السرير.. فرصة لن تعوض أبدا.. ولن أفوتها.

هيأت السرير وأبدلت ثيابه كاملة بل وعطرته.. وألقيت بجسدى فاردا ذراعى وساقى كما لو كنت طائرا يسبح فى الهواء.. أغمضت عينى غير مصدق هذا الاتساع الجميل.. أخذتنى سنة جميلة من النوم.. وسرى الخدر اللذيذ فى أطرافى المسترخاة فى هذا الكون الفسيح الممتد.. انتبهت فجأة على شيئ ما.. فتحت عينيى وقطبت جبينى متسائلا ما الذى أيقظنى أهو صوت ما؟ أم حلم ما لا أتذكره أيقظنى؟ تقلبت فى براح الفراش محاولا استعادة هذه السنة الجميلة ولكن هيهات.. لقد طارت فى ثوانى معدودة.. بدأت أشعر بعد فترة ليست بالقصيرة بفراغ هائل لعدم وجود زوجتى بجوارى.. تقلبت كثيرا فى السرير طوحت يدايى وساقى كثيرا يمينا ويسارا لأعطى نفسى قدر أكبر من الشعور بالاتساع.. ومع ذلك ظل شيئ ما ينقصنى.. سكون مريب يملأ الكون لم أتعود عليه.. اجتهدت فى تفسير هذه الحالة حتى أستمتع بتلك اللحظة الفريدة فى الحياة.. أقنعت نفسى بعد جهد كبير أن الانتقال من حال تعودت عليه لحال آخر جديد يجعل الإنسان قلقا.. وماهى إلا ليلة أو ليلتين وستعود تتمنى أن يتسع السرير.

انتبهت فجأة على صراخ طفلى الصغير قفزت فزعا وجريت نحو حجرة الأولاد فوجدته جالسا فى السرير يبكى.. حملته بين ذراعى ورحت أهدهده وأقبله وهو يصرخ مناديا ماما.. ماما.. حاولت أن أشرح له أن ماما مريضة لم يلتفت إلى وظل يبكى ويصرخ حتى تعب من الصراخ فوضع رأسه على كتفى وبدأ ينام من تعب البكاء.. وكلما هممت بوضعه على السرير استيقظ ليواصل بكاءه.. فاضطررت أن أذهب به لسريرى لينام إلى جوارى.

هدأ الصغير ونام وبدا أن الكون الفسيح فى سريرى سيضيق قليلا.. فاطمأننت قليلا.. وشعرت بنوع من الراحة وأغمضت عينى مستسلما للنوم.. وقد تخليت عن فكرة التحليق والتمدد فى السرير.. لا أدرى كم من الوقت مر حتى فوجئت بابنتى الوسطى توقظنى فانتبهت وقلت نعم حبيبتى.. قالت أريد طعاما.. نظرت على المنبه فوجدت الساعة الواحدة صباحا.. قلت لها حاضر حبيبتى وقمت إلى الثلاجة فقالت لا أريد هذا الطعام.. أريد بطاطس محمرة.. فقلت لها متبرما وبصوت عال لا.. هذا الطعام ممنوع فى الليل فبكت وقالت أمى كانت تصنع لى ذلك كلما أردت بلا اعتراض.. فقلت لها مندهشا وهل تستيقظين عادة فى هذا الوقت لتطلبى طعاما.. قالت وهى تتنهنه نعم كل ليلة فتقوم أمى من النوم فتقبلنى وتضمنى وتصنع لى الطعام الذى أريده.. وتطعمنى بيديها ثم تعيدنى إلى السرير وربما جلست بجوارى حتى أنام.. قلت فى نفسى ياللهول.. هل كانت تفعل زوجتى كل ذلك وأنا نائم.. ومارست التجربة من أولها لآخرها.. وقمت بفعل ماطلبته ابنتى بحذافيره وتمالكت نفسى كثيرا أمام طلباتها الصغيرة الكثيرة والمستفزة.. وقمت من على المائدة أكثر من خمس مرات لألبى لها طلبا.. وهى جالسة على الكرسى فى منتهى الاستمتاع تهز جسدها بالتبادل مع ساقيها غير مبالية بشئ على الإطلاق.. بعد ساعة على الأقل كانت ابنتى فى سريرها وقد بدأت تغط فى نوم مستقر.
وضعت رأسى على الوسادة قائلا لنفسى كيف تطيق زوجتى مثل هذه الأشياء؟ وكيف تتحملها؟ والأدهى من ذلك أننى لم أعرف ولامرة أنها تفعل ذلك.. بدأ شعور كبير بالشوق لها يجتاحنى.. البيت من دونها لايساوى شيئا.. استبد بى الشوق فرحت فى خدر لذيذ أتذكر الأيام الخوالى.. وما إن أخذتنى سنة أخرى من النوم حتى شعرت بمس يد تربت على كتفى عدة مرات مع صوت هامس ينادينى بابا.. بابا.. فانتبهت على إبنى الأكبر والذى لم يبلغ التاسعة بعد.. سألته مالك؟ قال أنا خائف.. قلت وقد استبد بى القلق مم؟ قال أشعر أن هناك أحد فى البيت.. فصرخت فى وجهه قائلا إلى متى ستظل صغيرا.. ألا تكون شجاعا أبدا من أين سيدخل أحد بيتنا؟ و.. وبدأ إبنى فى البكاء فأسكتتنى دموعه ورققت له فضممته إلى صدرى وقلت لاتخف نم بجوارى على السرير.. ولم أجد بد من أن أحمل الوسطى لننام فى السرير جميعا.. أو فى الحقيقة ناموا هم فى السرير جميعا لأننى لم أجد مكانا فأكملت الليلة مستيقظا إلى جوارهم.

فى المستشفى بدا وجهى شاحبا مرهقا فسألتنى زوجتى.. مابك ياحبيبى؟ هل نمت جيدا؟ قلت لها لا.. فقالت غريبة رغم أننى تركت لك السرير تمرح فيه وحدك.. ثم أردفت مبتسمة مازحة أكل ذلك لأننى تركتك ليلة واحدة؟ لم أعرف أن قيمتى عندك كبيرة لهذا الحد.. ابتسمت لها وقبلت جبينها قائلا ألف حمد لله على سلامتك سنعود للبيت الليلة فلما هممت بالكلام قاطعتنى قائلة أريد أن أقول لك شيئا.. لقد فكرت كثيرا الليلة الماضية ورأيت أننى عذبتك كثيرا.. وأنا أعاهدك أن أغير حياتى كلها لأجلك.. إذا كنت تود أن نشترى سريرا آخر فى الغرفة فليس لدى مانع.. قلت لها أنا لا أريد سريرا آخر حبيبتى أنا أريد أن أستعيد فراشتى الطائرة.. أريد أن أنام بجوار عروستى التى افتقدتها منذ زمن بعيد.. قالت أعاهدك أن أستعيدها لك.

وفت زوجتي بوعدها بذلت مجهودا خرافيا خارج حدود المألوف مارست الرياضة امتنعت عن كل مالذ وطاب من الطعام تخلت عن عادتها فى الطعام والأكل بين الوجبات حتى عادت الفراشة تظلل البيت بخفة روحها وانطلاقها.. وعادت البهجة وتحسنت صحتها كثيرا.. وصارت الحياة أروع وأبدع حينما جعلت الزمان يعود للوراء خرجنا سويا بعد فترة طويلة من انقطاعنا عن الخروج سويا.. تغير شكل الحياة.. وشعرت بأن وجه الحب الحقيقى الناضر قد استقبلنى مرة أخرى.
ثم...
التهمت زوجتى ثلاثة أزواج.. المحشوة بالفريك بالتمام و.. إلى جانب بعض.. مثل الأرز بالخلطة.. والصنوبر وعين.. المحمر فى السمن.. بقطع اللحم الضانى.. المخللات.. الرقاق المحشوة باللحم المفروم.. تصل إلى.. هذا تقريبا مالتهمته.. صرخة مدوية قطعت سكون الليل.. وضعت يدى على رأسى يائسا.. فقد فعلتها وطارت الفراشة مرة أخرى.