جرم لا يغتفر
استوقفني منظر طريف بالأمس حين ذهبت إلى محل إصلاح الهواتف؛ وجدت شابا في العقد الثالث جالسا إلى طاولة عليها بعض العِدد اليدوية الدقيقة وأسلاك مبعثرة متشابكة مع لواحق وأجزاء متناثرة لهواتف نقالة بالية.
وقف الشاب لمقابلتي باسما، فمددت له جهاز الهاتف بعد أن قصصت عليه ما أزعجني من عطله، ورددت على أسئلته التي بدت كالممهدة لتشخيص العطب. أخذ الجهاز إلى الطاولة وفككه بما لديه من مهارة، ثم استخرج شيئا صغيرا يشبه نتفة من لحاء القصب، واسبتدله بآخر أخرجه من درج الطاولة، وأعاد تركيب الجهاز، ثم وضع البطارية مكانها وشغله قبل أن يقول:
- هذا جهازك قد عاد إلى رشده ولن يزعجك بعد الآن
فخطر لي أن أدردش معه قليلا فاستأذنته في سؤال رحب به وقلت:
- شكرا لك على إنجاز العمل ولكني أحببت أن أعرف هل هذه المهنة تدرس في المعاهد والكليات؟
قال:
- أنا تعلمتها بالممارسة لأني لم أدرس العلوم قط حيث تخرجت في كلية الآداب مند خمس سنوات.
قلت:
- وكيف تمارس إصلاح أحدث التقنيات؟ لاشك أنك تعرف مبادئ البث والاستقبال الرقمي.
ابتسم الشاب واثقا من نفسه وأجاب:
- يبدو أنك تعرف عن هذه التقنيات الكثير ولكن يأستاذ؛ لو سألت الخباز كم ذرة صوديوم وكم جزيء ماء وكم عدد فطريات الخميرة يضع في الخبزة لأجابك بما يمكنني أن أجيبك على سؤالك. نحن ندع الحساب للمحاسبين الدراسة اللأكاديميين ونمارس حياتنا بما نراه يجيب على السؤال الأهم: إلى متى سنظل مستهلكين للتقنيات دون أن نعلق في تروسها؟ وسألني ما مهنتي.
قلت:
- أنا أستاذ هندسة تحكم آلي ولكني مغرم بالفنون والأدب ويستهويني البحث في العلوم الإنسانية.
عندها أخذ نفسا خلته يتنهد وقال:
- كان الله في عونك أستاذ، وأخشى عليك من الأدب فهو جرم لا يغتفر.