أنا والحديقةُ والمقاعدُ
كلّنا كنّا على هذي التّلالِ
وكوخُ جدّي،
يا رفيقةُ تذكرينَ،
معًا نغنّي للمساءْ.
وعلى طريقتنا كأطفالٍ
نطيرُ معَ السّنونو
كلّما ضحكَ الفضاءْ
تلكَ التي تأتي إلينا
في الصّباحِ تزورنا

الحديقة، المقاعد، الهضاب، السّنونو والإنسان المستمتع بهذا الجمال والاستقرار كلّ ذلك استحضر أمام عينيه عندما رأى رفيقته وبدأ بقراءة الماضي على مسامعها... الاسترجاع يوحي بأنّ الحياة مستقرّة وهادئة، لكنّ هناك تغييرا قد طرأ على هذه الأجواء

أينَ السّنونو لمْ تعدْ!!؟
- لا لم تعدْ،
واسْوَدَّ بعدَ غيابها
وجهُ الصّباحْ
- والكوخُ أذكرُ كمْ بكى
يومَ الرّحيلِ، وقدْ بكينا كلّنا
- لا زلتُ أذكرُ وجهَ أمّكَ

السّنونو لم تعد ... غادر الفرح المكان ولم يعد ... ذاك هو التّهجير الذي سوّد وجه الصّباح ... وتبدأ مرحلة الذّكرى باسترجاع حياة الوطن والحنين إليه في استعراض وذكر لمعالم الحياة الفلسطينيّة أثناء مسيرة الرّجوع المحكي عنها على متن السّفينة(سفينة العودة)؛ بدءا من يوم الرّحيل ... ذكر البيت(الكوخ)، الإنسان ، البئر، العصافير، الأشجار (التّين)، الحديقة والمقاعد، البحر،الأصداف، المسجد، الكنيسة ... جمعت الصّور بين الإنسان والكائن الحيّ والجماد، ورسمت صورة البلدة الفلسطينيّة التي لم تنسَ، من جديد أثناء خطابه رفيقته...

والكوخُ أذكرُ كمْ بكى
يومَ الرّحيلِ، وقدْ بكينا كلّنا
- لا زلتُ أذكرُ وجهَ أمّكَ
-----------------------
-----------------------
وأرى خلالَ عيونِ وجهكِ
كلَّ يافا، شطَّ يافا،
بحرها، وهضابها، والرّملَ،
والصّدفَ المبعثرَ والصّخورَ
أرى الكنيسة تشتكي
والجامعَ المهجورَ يبكي قصّتي
وأراكِ أنتِ رفيقتي
___________________________
يسترسل غسّان في السّرد عن ماضي يافا، يافا التي يراها في عينيّ رفيقته؛ جامعا الذّكرى في العينين كأنّهما كاميرا تحتفظان بالشّريط... وتأخذه المشاهد إلى ذكر التّفاصيل هذه، فتنبّهه رفيقته بأنّ المعالم قد تغيّرت، هذا إشارة إلى أنّ رفيقته هي التي أخبرته عن الوطن لأنّها من الدّاخل. وتبدأ كلامها :
غسّانُ مهلَكَ
فالخريفُ أطاحَ بالأوراقِ
واحترقَ الشّجرْ
والرّملُ لمْ يصمدْ أمامَ الموجِ
-----------------------
الخريف هو فصل التّعرية واصفرار الطّبيعة وشحوبها في إشارة منها إلى التّغيير السّلبيّ الذي طرأ على الوطن، حيث لم يبق من ربيعه المخزون في ذاكرته شيءٌ، حتّى الرّمال لم تصمد في وجه الأموج؛ إشارة منها إلى موج تدمير المعالم.
تذكّره رفيقته أثناء حديثه وعرض صوره القديمة، بالتّغيير لخوفها عليه من الصّدمة حين يراه على أرض الواقع، فيعيش الاغتراب مرّتين.

- أخشى عليكَ
منَ اغترابٍ مرّتينِ
فكلُّ شيءٍ قدْ تغيّر
مثلَ وجهي
- لا عليكِ
- قدْ اقتربنا
- أينَ نحنُ!؟
- لقدْ وصلنا
- أينَ!؟
أين!!؟
- ألمْ أقلْ منْ قبلُ
إنَّ البحرَ بدّلَ ثوبَهُ
والكوخَ غيّرَ لونَه
- ماذا دهاكَ..
سقطّتَ؟
- لا وقعَ الفؤادُ على الرّصيفِ
- تعالَ نرجعُ للغيابِ
__________________________________
خوفها دعاها لتطلب منه العودة من حيث أتيا ، للغياب... لكّنه يصرّ، ويسأل عن السّور ؟!

السّورُ.. أينَ السّور؟
أينَ حجارةُ العشقِ القديمِ
- كفاكَ
- أينَ دفاتري، والبئرُ،
والطّابونُ، منْ قتلَ الشّجيرة؟
آآآآآهِ ما هذا الصّدى!؟
- يكفي رفيقي فلنعدْ
____________________________________
بعد ذلك، تبدأ مرحلة الصّراع الحقيقيّ والمواجهة، حين جاءت المستوطنة وسمعت ما يدور من حديث:
_______________________________________

- منْ أنتما قالتْ
بصوتٍ أعجميٍّ
منْ بلادِ الرّوسِ تصرخُ
خلفَ نافذتي القديمةِ
لمْ يكنْ ذاكَ الزّجاجَ
ولا السّتائرَ
---------------
---------------
قلتُ لها:
- أنا ساكنُ الكوخِ القديمِ
هنا تركتُ دفاتري
وهنا لعبتُ معَ الطّيورِ
ومقعدي كان...
- انصرفْ
- ماذا!!؟
- أقولُ لكَ انصرفْ..
قلتُ اسمعي همْسَ المكانِ
فقدْ تذكّرَ خطوتي
أنا صاحبُ السّور العتيقِ
- صهٍ..

أجابتْ.. يا إلهي كيفَ ذا؟
_____
هم الأغراب وهي صاحبة المكان ... الحوار بين الشّقراء روسيّة الأصل وبينهما أعادنا إلى يافا القديمة،إلى حياته الخاصّة: دفاتره ومكان لعبه، ومقعده. وبيّن حزنه على يافا الحديثة، وابتعادها عمّا كانت عليه... لكن ما يهمّه لا يهمّها، وتنكر وجوده أصلا.
ما يراه ويشعر به لا تراه هي. وهنا أشارة لسياسة التّغييب وأنكار الآخر، وإلّا لا يمكن العيش مع طيف من طردوا وحلّوا مكانهم.

هي لمْ ترَ القلبَ الممزّقَ
في يديَّ ولمْ تع الهمسَ الذي
جعلَ المآقي تستبيحُ سيولها
هي لم تشاهدْ طيفَ أمّي
حينَ مرّتْ منْ أمامي ههنا..لمْ تسمعِ الأغصانَ والاوراقَ
حينَ جئنا كيف غنّتْ

وتأتي بعد ذلك الدّعوة للمغادرة والعودة للبحر (التّيه ) مع حفظ الدّموع على ما رأياه من خفافيش الظّلام

قمْ بنا غسّانُ
واحفظْ ماءَ دمعكَ
لا يليقُ بكَ السّقوطُ
ولا انفتاحُ الدّمعِ فيكَ
على الحقيقةِ..
هلْ فهمتَ الآنَ أوجاعَ الحقيقة؟
قمْ بنا فالبحرُ أرحمُ بالمسافرِ
منْ خفافيشِ الظّلامْ

ويعود صوت المستوطنة الشّقراء من جديد، ويدور الجدل ثانية لإثبات هويّة الوطن بذكر السّور والبئر والطّابون. ولا يجدي ذلك شيئا ويكنّى بالغريب ... هو الغريب وهي المواطنة!

- ألا تزالا ههنا؟
الصّوتُ عادَ مجدَدًا
كالرّعدِ حتّى لا أنامَ على
سريرِ تعلّقي بالحلمِ..
لو تدرينَ يا شقراءُ
معنى أنْ أمزّقَ مرّتينِ
وأنْ أصابَ بطلقتينِ
ولا أموتَ ولا أعيشَ
- كفى.. كفى.. هيا ارحلا
- قلتُ اهدئي
ودعي الأحبّة تستريحُ
على المقاعدِ لوْ لبعضِ الوقتِ
حتّى تستردَّ الرّوحُ روحي
- منْ تكونُ، ومنْ رفيقتكَ العجوزُ؟
- ألمْ أقلْ!
أنا صاحبُ السّورِ الذي
يومًا تهدّمَ بعضُهُ،
والبئرِ والطّابونِ..
- في أي البلادِ ولدْتَ
يا هذا الغريبْ.؟
- أنا!!؟
- نعمْ.. قالتْ
____
وتثور ثائرته عقب وصفه بالغريب وتأتي الأبيات بلغة متحديّة ومصممّة على البقاء، فهو ابن البحر ولن يبيعه، ولا يزال يذكر تفاصيل البيت حتّى المسامير خلف الباب! مع خاتمة تهتف برفض المغادرة وتؤكّد عليه مرّتين ...
فقلتُ لها اخسئي
أنا ابنُ هذا البحرِ
قبلَ ولادةِ الريّحِ الغريبةِ
إنَّ هذي الأرضَ أمّي..
- أنتَ منْ!؟
قالتْ وغابتْ في ابتسامٍ ماكرٍ
- أنا إنْ دخلتُ الدّارَ
ضمّتني النّوافذُ والحوائطُ
والمساميرُ التي علّقتُ ثوبي فوقها
هيَ خلفَ هذا البابِ منْ
جهةِ اليمينِ
وفي الممرِّ بلاطةٌ مكسورةٌ
- غسّانُ يكفي
- ليسَ يكفي يا رفيقةُ
إنَّ لي في داخلِ الحجراتِ ظلّي،
صرختي لمّا وُلدّتُ،
ليَ الحصيرةُ والسّراجُ
وصوتُ أمّي كلَّ صبحٍ
كمْ أحنُّ لصوتِ أمّي..
والسّنونو...
فاسمعي!!!
صوتَ السّنونو..
صوتَ أمّي..!!
تسمعينْ!!؟
- أجلْ ولكنْ فلنغادرْ
- لا وربّي لنْ أغادرَ
لنْ أفارقَ صوتَ أمّي
لنْ أبيعَ البحر يومًا
لنْ أغادرَ مرّتينْ.
أنا لنْ أغادرَ مرّتينْ
______
قصيدة قصصيّة رائعة من عنوانها الذي يشكّل تناصا مع رواية غسّان كنفاني : عائد إلى حيفا ... ولكن هنا كانت الرّوعة باستعراض رحلة العودة بأسلوب جميل
بوركت أخي الشّاعر رفعت
تقديري وتحيّتي