عالمٌ نسجته خيوط الشّمس

بقلم / نور الجندلي

(1)

على رفوفِ مكتبتي



وأنا أهمُّ بوضع كتبي الجديدة في مكتبتي ، أفتّشُ لها عن مكانٍ مناسبٍ بين أخواتها ، أستأذنُ وحي القلم كي يتنحى قليلاً إلا اليمين ، وأهمسُ لصيد الخاطر أن يفرغ للسّكان الجدد مكاناً خاصاً إلى جواره .
وأرتّبُ الكتب حسب الحجم ، ثمّ أعود فأصنّفها حسب النوع فأهم ما بنيتُ منذ ساعات ، وأنا مسرورة كلّ السّرور بعملي ، ذاهلة عن دقائق تمرّ ، فكأنني في جنّة أو بستانٍ حفّته الزهور من كل جنسٍ ولون ، فلا أملكُ إلا أن أتابع التنسيقَ لحديقتي بهمة ونشاط .

لهذه الحديقة جزيل فضلٍ عليّ ، وكلّ حرفٍ فيها قد اقتطع مساحة من قلبي ، فكانت القلب !
كم أمدتني بعلمٍ وخبرات ، وكم نهلتُ من ثقافات العالم عبرها . لقد زادتني فهماً بالحياة .

هذه المكتبة الصغيرة المكتظّة بالكتب المنوّعة من كلّ جنس ، أشبهُ بعالمٍ ساحرٍ كدنيا العجائب ، لا يبهر إلا من ضحّى بكلّ غالٍ لاكتشافه ، وامتلك العزيمة والهمّة والصّبر والإقدام لاستخراج كنوزه .
ففيها من أخبار الأمم ، ومن عصارة فكر العلماء ، ومن محابر الأدباء ، وسير النابغين والحكماء ما يشعركَ بأنكَ قد عشتَ يوماً معهم ، وجلستَ متأدّباً في مجالسهم ، وارتشفت من رحيق فكرهم ، فأنت في ربحٍ دائم لا ينقطع ، مادمتَ معهم ، فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم .

وأخذتني الذكرياتُ بعيداً ، وسافرت بي إلى يومٍ كدتُ أنساه ، يومٌ هو الحلم في حياة فتاة صغيرة ، لا تتمنّى أن تمتلكَ دمية جديدة ، ولا أن تزهو بثوبٍ جديدٍ ، لكنها تمنّتُ لو حصلت على مكتبة تخصها وحدها دوناً عن الآخرين .
وغفا حلم الصغيرة أعواماً ليستيقظَ على وقعِ حنينٍ ، وكتابٌ عظيمٌ يهدى إليّ متوّجاً باسمي ، وكم فرحتُ بكتاب الله يهدى إليَّ فكأنّهُ كان يومُ عيد .
لقد كان بداية النور الذي شعّ في مكتبة خاوية ، فأغنى عن كلّ كتاب ، وكان الزّاد والعُدّة . فاعتنيتُ بوضعه على رفّ مكتبة خاوية ، واعتزمتُ أن أعمرها بقلبي وروحي خطوة خطوة .

قادتني الأقدام إلى إحدى المكتبات الحمصيّة العريقة ، فطرقتُ بابها أبحثُ عن روحٍ تركتها على أحد الرفوف ، وفضحتني نظرات حائرة ، ترى إن سألني عن طلبي ماذا تراني قد أجيب ؟ أأخبرهُ بأني فقدتُ روحي وقد توزّعت في كلّ كتاب ! فمن أين يأتِ لي بها ؟ قد ينعتني بجنونٍ وما أنا إلا فتاةٌ ترسمُ حلمها بريشة حب ، فالقلب الذي تملكهُ لا يجيدُ إلا هذه اللغة ، وإن أتقن كلَّ اللغات .

اخترتُ ما أعان الله عليه من هناك ، ودفعتُ ثمنه مما ادخرته من مصروفي الخاص ، وعدتُ إلى مكتبتي الحبيبة ومعي طاقةَ فكر معطّرة بمسكٍ لا أنسى عبيره ما حييت .
وسار المشروعُ الصّغيرُ على قدم وساق ، وتواردت الكتبُ تباعاً من كتب في التفسير إلى ديوانِ شعرٍ ، ومن نثرٍ أدبيّ إلى ثقافة وتاريخ ، فلسفة وطب .. !
حتى عمرت المكتبة لبنة لبنة ، وامتدّ البنيانُ فشمل كلّ ناحية فيها .

أنظرُ إليها الآن ، بعد أعوامٍ من التطوير ، وكم آسفُ على ضآلة حجمها ، وقلة ما تحتويه ، ويغريني الطموح بإنشاءِ أختٍ لها تسيرُ على نهجها ، أو تتفوّق عليها .
أحلمُ بمكتبة واسعةٍ جدرانها كتبٌ ، وأسقفها صِحافٌ ، وأرضها من الورق الأملس ، أكتبُ عليهِ خطواتي ، وما تعلمتهُ من كلّ كتاب .

اليوم وأنا أرقبُ فيها هذا الاتساع البطيء الخطوات ، وأمسحُ مع كلّ يوم غبار الأيامِ عن كتبي ، تراودني هواجسُ سوءٍ فأبعدها ، وأتساءلُ لمن سأبقي مكتبتي ؟
هل سيخطُر للجيلِ القادمِ أن يبحث فيها ، أو يتناولَ كتاباً فيقرأ فيهِ خلسةً كما كنتُ أفعلُ دائماً عندما أقابلُ كتباً تغريني ، وتؤنسني إذا ما استوحش بي المكان !
إنّ كلّ ما أراهُ الآن لا يبشّرُ بخير ، فالجيلُ قد أذهلتهُ حضارة الحاسوب عن حضارة عريقة ، حضارة الكتب والتاريخ ، فغدا يناجي حاسوبه ، ويرهف السمع إلى وقع أصابعه على أزراره بدلاً من أن يحاور أديباً أو مفكراً عبر سطورٍ تحملُ عبق فكره .
ذلك أنه جيلُ لم يتربّى على القراءة ، ولم يعتد عليها ، ففرقته عن الكتب مساحات غربة شاسعة .
وقد آلمني كثيراً أن أقرأ إحصائيّة تتحدث عن حصيلة قراءة الأطفال في الدول الغربية فتقول :
الطفل الأمريكي: نصيبه من الكتب في العام 13260 كتاباً ، و الطفل الإنجليزي: نصيبه من الكتب في العام 3838 كتاباً ، و الطفل الفرنسي: نصيبه من الكتب في العام 2118 كتاباً ، أما الطفل الإيطالي: نصيبه من الكتب في العام 1340 كتاباً ، والروسي: نصيبه من الكتب في العام 1485 كتاباً في العام .
فأين أطفالنا أجيالُ أمّة اقرأ ؟
وقد هممتُ بعد أن قرأتُ الإحصائية أن أودّع قلمي إلى غير رجعة ، فإن كنت قد قرأت لمن مضوا ، فهل تراني سأجد من يقرأ لي ؟
وسول لي الشيطان أن أتخلى عن كل ما بنته المكتبة في داخلي من مبادئ ، لكنني عدتُ فأحجمت ، وعلمت بأن أمة نورها القرآن ، ونبراسها السّنة ستبقى بها أجيالُ خير إلى يوم الدين ، ولن تعجز الأرحام أن تنجب رواداً في العلم والفكر يحملون أدوات النهضة ، ويرتقون سلم الحضارة .
وعزمتُ أن أغرس في كلّ قلب حباً ضاع ، لحضارة منسيّة ، فأمسكتُ الدواة والقلم ، وبدأتُ أنسجُ خيوط الشمس .