بُكاء كتاب :
ــــــــــــــــــــ
إنه شاعر نَبَطِيّ من أهالي ( ..... ) ، إحدى المدن التابعة إداريا لمنطقة (...... ) .
كان يبدع النظم تلو النظم ، وكان يمتلك ملكة الشعر النبطي كأن الحروف والكلمات والقوافي منضّدة على شفاهه تنتظر أن يلفظها ويطلق سراحها .
وأكثر نظمه كان على بحر المَسْحُوب ،،، والمسحوب هذا من أشهر بحور الشعر النبطي في جزيرة العرب ،،، تماثل شهرته في النبط شهرة الطويل في الفصيح .
وميزانه هكذا :
المسحوب :
مستفعلن مستفعلن فاعلاتن **** مستفعلن مستفعلن فاعلاتن .
غير أنه ينظم باللهجة المحلية لا الفصيح ،،، طبعا ولا يشترط أن تكون اللهجة سعودية وإنما أي لهجة عربية بشرط مراعاة الوزن .
عاش حياته بشرف وأنفة حتى بدأت تُضيّق عليه الحياة رغم رحابتها ،،، وحتى آل به الحال إلى الفقر الذي لا يعرف صاحبا .
فاسترزق هنا وساح هناك ، وضرب مناكب الأرض فلم يجد ما يسد الرّمق .
وأقسى ما كان يعانيه تذمر زوجته وصياح الصبية .
فراح يبحث في بيته علّه يجد ما يبيعه ، وكلما وجد شيئا وجد السوق مكتظ بأمثاله ولا مشتري له ! .
ثم تفاقم الفقر وكشر عن أنيابه ، حيث فغر الصبية وصرخت الزوجة قائلة : نريد رغيف خبز واحد فقط نقتسمه ونأكله ! .
فكاد يذرف لولا أن وقع نظره على كتاب ثمين كان سيد كتبه ،،، فمشى إليه وتناوله وقال له : اليوم سنأكل بك الخبز .
فخرج إلى السوق يعرضه ،،، وكلما مر بقوم صعّروا خدودهم وصدوا عنه .
كتاب !!! وما نفعه ؟! .
كتاب !!! وما مردوده المادي ؟!
كتاب !!! ومن ذا الأحمق الذي سيشتريه ؟! .
كل هذه تساؤلات قرأها من نظراتهم لما رآهم قد ولّوا وجوههم شطر المرفّهات كأجهزة التسجيل والهواتف المنقولة والاسطوانات المدمجة ... ألخ .
فلما ولّى القوم الأدبار ، يمّم شطر الخبّاز ،،، ووقف أمامه ينظر ويراقب .
فانتبه إليه الخباز وقال : ماذا تريد ؟
قال الشاعر : أريد خبزا .
قال الخباز : بِكَمْ ؟
قال : ليس معي نقود ! .
قال الخباز : وما معك إذن ؟
قال : هذا الكتاب ! .
قال الخباز : وماذا أفعل بالكتاب ؟ أريد ثمنا للخبز .
قال : هذا الكتاب وبما يحوي بين دفتيه لا يقدر بثمن ، فيه من الحِكم والأشعار والعلم ما يُتحف الخاطر .
قال الخباز : أنا لا أفهم الأخبار إلا أن يشرحها لي ولدي ! فكيف أفهم كتابك هذا ؟ لا قيمة له عندي ! .
قال : اشتره يا رجل .
قال الخباز : وكم ثمنه ؟
قال : ثلاثمائة .
قال الخباز باستغراب : ماذا ؟؟؟ ولم ؟ هل صُنع من الذهب ؟! .
قال : أنبأتك بثمنه الحقيقي لا ثمن بيعه الآن .
قال الخباز : وكم تريد به ؟
قال : هات مئة ريال مع الخبز .
قال الخباز : لا
قال : خمسين .
قال الخباز : لا
قال : عشرة .
قال الخباز : لا
بكى الشاعر وقال : هات به خبزا فقط .
توقف الخباز عن عمله وقال له : إسمع ،،، والله لا قيمة لهذا الكتاب عندي ،،، ولكن سأعطيك به أربع خبزات معدودات .
قال : الأربع خبزات بريالٍ واحد فقط .
قال الخباز : رحمة بك سأجعلها ثمانية أرغفة .
ثم ناوله الكتاب وأخذ الخبز .
فما كاد يتولى عنه حتى رأى بأم عينه مصرع الكتاب ، حيث زج به الخبّاز في جحيم نار الفرن .
فقال الشاعر : ويحك ماذا فعلت ؟
قال الخباز : أطبخ به خبزا جديدا .
فوقف الشاعر ينظر وعينه تفيض بالدمع وهو يرى تقلب الصفحات بالنار واحدة تلو أخرى وهي تصرخ والكتاب يبكي .
أوّاه ،،، تم ذبح الكتاب ذبحا لا رحمة فيه .
الكتاب يبكي والشاعر يذرف ولسان حاله يقول : أمّة تداركها الله ، أشجع من فيها الأرنب .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــ
هذه الواقعة : قيلت ذات أمسية شعرية بالرياض من خلال قصيدة نبطية على المسحوب رائعة .
ـــــــــــــــــــ انتهى ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
حسين الطلاع
19/7/2011
المملكة العربية السعودية – الجبيل
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــ

استدراك :
وضعت النقط بدلا من المدينة والمنطقة وذلك احتراما لخصوصية الشاعر .