حَلَّ البَيْنُ وهُم رحلوا :
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
ما أشد الظّعن وما أقساه ! إذ لا يُخلّف إلا الوحشة والأطلال التي لا تبعث إلا رائحة !!! أجدني حيالها كالصائم لا تَسُدّ حاجته رائحة ما لم يَطْعَم ! ،،، ولتمادّه العجيب أن لا هِلال له ! .
ثم جاءت عُنَيْس ،،، وقد أجادت قراءة العين ، فَعَرَفَت ما انطوى عليه الضمير ،،، فاقْتَرَبَت ثم جَلَسَت .
فقالت : ألَمِيسٌ أم هِي أم النجلاء أم الزائرة ،،، تانكِ التي رحلت ؟
قلت : كلهنّ واحدة يا عنيس ،،، وقد صببتُ عشقي في تَيْنك التي ظعنت .
قالت : ولم لمّت رحلها ؟
قلت : لو اكتوت بحميم البُعد لرَحَمَت .
ولو ذاقت حرّ الجوى لأشْفَقَت .
قالت : حَسِبْتها سكنت روحُها إلى جانب الروح ،،، ألم تفعل ؟
قلت : لا !!! بل أنا من أسْكَنَها .
قالت : أنت !؟ ،،، وثم خَرَجَت ؟
قلت : نعم ،،، وذلك لما ظننتُ أني برعتُ في اشتمالي عليها كما اشتملت الرّحم على ما فيها إن أنشأ الله خلقاً آخرا فيها .
قالت : وإذن ،،، ففيم جئت تسيح هنا حتى اضطربت فيك النوازع ،،، سيّما وأنت تقول أنك ظننت ؟
قلت : نعم ، نعم جئتُ ،،، ومن نكدٍ غمّت عليّ سياحة ! .
قالت : وما أجدى عليك المجيء ؟ .
قلت : لعله خفي عليكِ بعضا منها يا عنيس .
قالت : لا تقل لي حسنها وجمالها ،،، فقد علمت منكَ أنها انتُخِلَت ثم عُجِنَت ثم صُوِّرَت !!! ومن قبل قلت أنها جزلة محكمة الغضاضة ، متّسقة التقاطيع ، بديعة الحسن ،،، تجعل المرء حين ينظر إليها كأنما أسلم نفسه إلى ساحرة جاوزت النفث في العُقدِ ! وحتى يرجع في غير حياطة العقل !!! وأذكر أنك قلت ذات مرة من المِرار أنها جعلت تنطق ، ولحلاوة منطوقها أفسدت عليك أكل الحلوى !!! فهل من جديد ؟ .
ثم ،،، جعلت تقهقه اللئيمة !!! .
قلت : لكأنّكِ تهزئين يا ابنة الجِنّة ؟
قالت : لم أقصد ،،، غير أنك ما زلت تعيدها وتذكرها حتى ظننا أن الأنام اختلفوا على ما فيها ! وتجاذبوا على ما بها ! .
ماذا يا هذا !!! هل أغنت عن النساء !!! أم أنها نسقٌ من النساء عجيب ؟؟؟ .
قلت : يبدو أن الغيرة سلكت مسلكها ! إذ أنها كالعطر الشّميم يصيب بأريجه من حوله بالعموم ،،، وأنها ما تُقدم على عمل أو تلمس ملموسا حتى يعود كالورد أصابه الندى .
قاطعت الكلام وقالت : توقف ،،، توقف ،،، أنا !!! ؟ .
قلت : النساء أولا وثُم أنتِ ،،، فصرتن كالقِدْر إذا استجمعت غليانا .
قالت وبصوت منكر : ومن قال ذلك ؟ .
قلت : طَنَزُكِ السالف يا عُنيس .
قالت : لا والله ،،، وما أردتُ إلا خشيتي عليك العته إن راحت تمشي في أوصالك فتعجزك أن تخترع الرشد .
قلت : أيتها اللئيمة ،،، أنا أرشد منكِ ومن ألفٍ كمثلكِ ، ووالله ما هي إلا الغيرة .
قالت : ممّ ،،، وكيف ؟
قلت : أرأيتِ إن يممت شطرها النساءُ ،،، بَطُل منهن ما كان نقصا ! ،،، وتغيّرن كأن التخليق أُعيد عليهن ! .
قالت : آهه !!! ولم ؟
قلت : لأنها عدوى الحُسن ،،، فما يتنافرن من حولها حتى يعود إلى أصله مع بقاء بضع نفحات يتبلّغن بها ،،، أو هنّ يتسترن عليه بعد أن يختلسنه .
قالت بتعجب : يتغيّرن إن جلسن إليها ! ؟
قلت : الواحدة بالواحدة .
قالت : وما مقامه بينهن ؟
قلت : ما مكثن بين أيديها ،،، فيعجبن بأنفسهن ! .
قالت : ولما يعود إلى أصله ،،، ماذا يصنعن ؟
قلت : يتحسرن ،،، وَيَرَيْن أن يُقبّحنها حسدا ،،، غير أن الجمال يرى أن يقهرهن ، وقد فعل ! .
قالت : قد فعل !!! أيعقل هذا ؟
قلت : وما العجب ،،، وقد عُلّمت وعُرّفت أسرار الجمال وعُهِد به إليها ، ثم أحْسَنَتْه .
قالت : مُسرفة الحسن والأنوثة هي ولا بد .
قلت : لا ريب أن الأنوثة استبدّت بها ،،، ولا ريب أنها رَبَت عليها المحاسن حتى صارت نقضا لكل مواطن القُبح ،،، بل لكأنها جاءت تكذيبا له !!! .
قالت : فلم لا تدحر القبح بالكلية إن كانت نقضا كما تقول ؟
قلت : سألتها هذا من قبل ،،، فقالت عليّ بِخُوَيّصة نفسي .
قالت : وهل فعلت ؟
قلت : نعم فعلت ،،، فكانت كالسهم المُراش انقضّ على القبح فأخطأ رأسه .
قالت : ما أشد عشقك لها ! تارة لميس ، ومرة نجلاء ، وتارة أخرى زائرة الليل ،،، والله قد سحرتك هذه المرأة ، حتى صرت لا تصدق إلا بها ! وتريد أن تحملني على التصديق أيضا ! والله لكأنك تصف أنثى غير الأنثى ! يا رجل ،،، أي غلبة تحتكرها تلك المرأة ؟ .
قلت : والله يا عنيس ، لكأنّ جميعها العجب العجاب !!! إذ ما تفرّستُ فيها جانباً إلا وجدتني لم أحط بالجمال علما ! .
وما رأيتها قط إلا امتدّ إليها رجائي ، وما تركتها إلا استخلفتُ عليها الأحراز .
قالت : وما يُجدي عليك هذا كله ؟
قلت : جمال لا يُجدي عليّ شيئاً إلا أن أتَمَقّله ، ما لم أشتره بكلمة الله ومن ثم أستحلّه .
قالت : لعله جرى فيها الدّلّ بصحبة الرّقّة ، حيث لم تكن تلكم المجاري إلا واسعة رحبة .
ولعله جرى فيك ما جرى ففعل بك الأفاعيل .
فما حظك من وراءه ؟
قلت : أتَسَعّدُ بها ،،، وكفى .
قالت : ولكنها رحلت
قلت : نعم رحلت ،،، أترين تلك الأطلال ؟
قالت : نعم ،،، ما بها ؟
قلت : للأطلال أوفى منها ،،، وللحجارة أصدق منها ،،، إذ بقيت وقد علق بها الأثر كما علقت المضغة في قرارها المكين .
قالت : لم لا تعشق غيرها ؟
ضحكت وقلت : لو كان باليد لهان أمره ،،، ولكنه كتاب كُتب .
قالت : وماذا أنت فاعل ؟
قلت : لا شيء غير أن أقول :
حلّ البينُ وهم رحلوا .
قالت : أسمعني إذن .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
لك الله يا قلبُ ، أسَرَتْك الحِداقُ لمّا وهَنَت ! ولمّا راموا الإثمدَ ،،، واكتحلوا .
ولك الله ، لمّا عرفوا الوفاء فيك ، فكيف بذمام الوفاء ،،، جهلوا ؟
فيا عجبا ! كيف استقام في الفؤاد ولاء ، وهم عن عادة الولاء ،،، عدلوا ؟! .
من كل ما فيك نالوا ، ومن كل معين للعشق أبدعته لهم ،،، نهلوا ! .
إذ أذكرُ كيف حلّ الحشا توأم الروح فانشغل ! ثم ترحّل مخلّفاً لذعه لمّا الأنام ،،، شُغلوا .
وأذكر كيف ذللتُ له مع كل خفقة كل مُستعصٍ ، فراح ينهج في النأي السّبُلَ ويبذل كغيره ممن ،،، بذلوا ! .
فلما رأوا صدق الضمير بارزا ، هلعوا !!! ومن ثَمّ ،،، ذهلوا ! .
فلا لوم ، فقد حلّوا الفؤادَ وزادوه رهقاً ، فيا ليت أنهم من قبلُ ما ،،، حلّوا .
ولا لوم ، فقد كانوا يمحقون الأقمار ، إذا بوجوههم على السُّمّارِ ،،، هلّوا .
كأنهم أُرْسِلوا للتهويم ! فلما وافَوا ومن غير ما سببٍ ،،، قفلوا ! .
وكأنهم ما كان سكنهم إلا طرفة عين ، يوم حلّ البينُ وهم ،،، رحلوا .
وكأنهم امتهنوا التسويف واكتنفوا المَطلَ ، فيا ربّ كيف هم ،،، مطلوا ؟
وكنت أحسب العطاء منهم عميما ، إذ نسيت أنهم من الغيث ،،، مُحِلوا .
فكيف أوهموا أنهم حلّوا الوثيقَ ؟ لمّا ضاعفوا التعقيد بتخريصهم أنهم ،،، حلّوا ! .
وكيف جاهدوا المكث ؟ حتى ملّهم السخاءُ وهم ،،، ملّوا ! .
فعجبتُ كيف وجدتُنِي على حياةٍ ساعة صالحوا الهجرَ ، فما خجلوا ولا ،،، وَجِلوا ! .
دعك من ذكرى يا قلب ، وكفاك أن علمت أنهم شحّوا وبالعطاء ،،، بخلوا .

ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــ
حسين الطلاع
7/4/2012 م
المملكة العربية السعودية- الجبيل





: الإثمد هو الكُحل .
: شخصية من الجن ليست حقيقية وإنما على سبيل الأسطورة .
: تانك إسم إشارة بمعنى تلك .
: تينك أيضا إسم إشارة ومعناه تلك .
: لمت رحلها من لمّ أي جمع أغراضه ورحل .
: الرغبات والتوجهات .
: من غمّ أي اضطرب فلم تُعلم ملامحه .
: أي صارت تضحك بصوت .
: الأنام هم البشر .
: أي تنازعوا عليها .
: هو الفوّاح المشموم المنتشر .
: الطّنَز هو الهزء باحتراف ولؤم .
: الخويّصة هي الذات الخاصة أو خاصتي .
: هذه توهم العكس من حيث الجملة ، مع انها مدح ! وأخطأ رأسه هي مبالغة في إصابة الهدف ،،، وأحسب أن النعت محمول على الهدف لا على الرامي ،،، أي أن الهدف حاول إخفاء رأسه اتقاء السهم فأخطاء فصار واضحا فأصابه السهمُ .
: أتمقله من المقلة أي العين والمعنى أنظر إليه بمجامع العين .
: الحِداق هي العيون ، ووهنت من الوهن وهو الضعف والإسترخاء لما ينسدل الجفن كأنه تعب .
: الذمام جمع ذمة وهي الأمانة .
: المطل هو المماطلة في قضاء الحاجة أو الشيء .
: الوثيق من أسماء الحبل الشديد ، والتخريص هو الكذب أو تأليف واحتراف الكذب .