الحطــام
تهدجت أنفاسه , وخارت قواه فألقى معوله وجلس يستريح وسط ما حوله من حطام .. لا يذكر منذ متى يقوم بهذه المهمة, وكم تمنى أن تكون الأخيرة .. ولكن لا مفر فعليه أن ينجز مهمته متى وجدت , وأينما وجدت .. دائما لا يتقاضى أتعابا على مهمته .. فلا أحد يستأجره .. فهي ليست مهنة بقدر ما هي رسالة وليس له الخيار في أن يرفض , فهي قدر مقدور عليه .
نظر إلى يمينه فراعه الحطام .. هز رأسه بأسى ( كم من حطام صنعه ورفعه بنفسه إلى مصاف الآلهة .. يقدره أولا , ثم يحبه .. فيجله .. فيرفعه إلى تلك المكانة وعندئذ .. عندئذ فقط يتحول إلى تمثال ينظر إليه من عليائه ببرود واحتقار .. لكنه كان دائما يصبر عليه وعلى غطرسته .. بل ربما توجه إلى السماء بدعاء حار له .. ويصبر .. وصبر لكنه أبدا لا يستسلم .. فاللحظة آتية .. آتية لا ريب فيها .. عندها يهب فجأة قابضا على معوله بادئا في تحطيمه لا يحول بينهما حائل )
خطف معوله وهب واقفا وشرع في العمل مرة أخرى .. رفعه عاليا وهوى به عليه فطاشت ضربته في الهواء.. رفعه مرة أخرى وهوى .. تكرر الأمر مرة أخرى .. وثالثة .. ورابعة .. لا يعرف ماذا دهاه .. يشعر بحائل بينهما .. حائل غير مرئي ـ لا يعرف كنهه ـ يجعل ضرباته تطيش في الهواء .
كم من تماثيل صنعها بهواه وكم من أخرى فرضت عليه فرضا , ولم يفرق يما بينها في المعاملة .. نفس الصبر .. نفس الدعاء .. ونفس المصير ، فعندما حان أوانها ما كان ليعيقه عائق .. دائما يحطمها .. ولو بعد حين .. لقد حطم من قبل ذا القبعة .. وذا الطربوش .. وحطم الكثيرين غيرهما .. دائما كانوا غرباء عنه باستثنائه هو وحده .. لم يكن غريبا عليه .. نفس سمرته ، وربما نفس ملامحه .. ما زال يذكر بدايته ..
كم كان صادقا .. وكم كان خفيض الصوت .. وكم كان مستمعا جيدا قبل أن يصيبه ما أصاب سابقيه .. لم يعد يسمع صوتا إلا صوته.. بل ويستطربه .. عيناه اختفى منهما ذلك البريق المحبب ، وصارتا كرتين من حجارة لا إحساس فيهما .. يراهما أحيانا وكأنهما شواظ من نار .. كم كانتا وديعتين عيناه ..
إلى عينيه نظر في تحد وقام ممسكا بمعوله وصوبه إلى وجهه في ضربة قوية ، لكنها طاشت .. سمع قهقهة عالية .. نظر إليه وجده يرمقه بسخرية واستهزاء .. كرر المحاولة مرة أخرى .. فشل .. سمع قهقهاته تدوي في الأرجاء .. زادته الضحكات عزما وتصميما ، وانهال بضرباته الطائشة يمينا ويسارا ، أعلى وأسفل .. ما زال ينظر إليه من عليائه بسخرية وتحد .. مازالت ضحكاته تدوي في أذنيه .. وهو على حاله في ضرباته الطائشة .. يتصبب منه العرق بغزارة .. يتعب فيستريح ليهب واقفا من جديد .. مكررا محاولاته وسط نظرات السخرية والضحكات المدوية .. لاشيء يثنيه عن عزمه .. فإنه محطمه محطمه .