حامل المصحف الشريف ... لحبيبتي
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

كان أكثرَ ما جذبني إلى الاقتراب من الشيخ في ورشته المميزة من بين سائر الورش في حي "خان الخليلي" العريق هذا الدأب الحثيث وتلك الهمة العالية في عكوفه على قطعة الخشب بين يديه كأن نحاتا يحاور مادته بحنوّ وإتقان كنت أحسبهما وليا فيما ولى عن حياتنا من معانٍ.
شعر بي فرفع إليَّ وجها غضنته السنون بتجاعيد لم تفلح في إخفاء وضاءة بثت في القلب طمأنينة شجعتني على المبادرة:
- الله ينور
قام برشاقة وأجاب:
- عليك وعلينا
زاد صوته من مساحة الاطمئنان فأضقت
- ما شاء الله
أدرك مدى فضولي لمعرفة ما يصنع
- إنه حامل للمصحف أصنعه لحبيتي !
قالها بوجد شباب ممتزج بتهدج الشيخوخة فسرى الصوت ساحرا لمس شغاف القلب ولكنني تساءلت متعجبا
- لمن؟!
- لخطيبتي
أدرك ازدياد أمارات التعجب في وجهي فقال
-أعرف أنك تستغرب قولي ولكنه فعلا لخطيبتي
- كيف؟
- بلى أنا متزوج
ثم مشيرا إلى الفتى في آخر الورشة :
- وهذا الشاب الذي تراه ابني الأصغر
- حفظه الله لك ، وحفظك له
- شكرا ، بارك الله فيك والحمد لله هو ابن طيب مثل أمه التي أحترمها وأقدرها
ثم بنتهيدة:
- ولكنْ
ما الحب إلا للحبيب الأولِ
نعم ، حبي الأول ، جارتي الحبيبة التي حال بيني وبينها أهلها الذين رفضوا أن يزوجوها لصنايعي رغم تمسكها بي
سكن حبها قلبي كل هذا العمر رغم زواجها وزواجي حتى عرفت منذ أيام بموت زوجها ، فأردت أن أذهب لخطبتها بعد أن أتم حامل المصحف الشريف لأقدمه لها هديةً لعلمي بمدى حبها للتلاوة وحرصها عليها. ما رأيك؟
- رائع والله يا عم الحاج
شعرت بصدق إجابتي إذا ما كان يسألني عن مهارته في الصنعة أم عن قصته الرائعة
تذكرت ما جاء بي إلى هنا فناولته العود لإصلاح أوتاره المتراخية ، أخذه مني مبديا عنايته، قائلا:
- بعد أسبوع لانشغالي كما ترى
قلت مقدرا وقد تهيأت للانصراف،:
- هو كذلك
***
بعد الموعد المقرر بشهر بسبب سفر عارض عدت أمنِّي النفس برؤية الشيخ وحيويته في العمل وحماسته في الحديث عن خطيبته يدفعني إعجاب لا يغلبه إلا الفضول .
وجدت الحامل متصدرا المكان في بهاء وقد اكتمل قطعة فنية فريدة تشد العين والقلب.
قابلني ابنه بترحاب وقد تذكرني
- انتظرتك كثيرا ، سأبحث لك عن العود؟
كان المكان قد فقد الكثير من ترتيبه ونظافته
شعرت بغصة قبل أن أسأله :
- لماذا انتظرتني ، وأين عم الحاج؟
- تعيش أنتَ!
كان يغالب بكاء ما تزال آثاره في عينيه ونبرة صوته.
قلت مواسيا له ولنفسي:
- إنا لله وإنا إليه راجعون، الله يرحمه لقد أحببته جدا
- كل من رآه أحبه الله يرحمه لقد عرفنا من بكاء المعزين أنه كان فاتحا لبيوت كثيرة
- البركة فيك
- أشد ما يؤلمني في رحيله أنه كان قوي الحضور جدا ، كان أبي وصديقي، لم أتخيل غيابه لحظة، أنفاسه ما تزال تحيط بالمكان.
- حقا!
انشغل عني بالبحث عن العود فلما وجده قال
هاهو العود لقد اهتم به الوالد جدا ولم يتركه حتى أصلحه
رآني أثبت عيني في حامل المصحف .
- لا يقدر بثمن ، لقد وضع فيه والدي فيه عصارة فنه رحمه الله
أشفقت عليه وهو يقول جملته الأخيرة بنبرة تدل على أنه لم يعتد عليها بعد
ثم متذكرا:
- قلت لي إنك انتظرتني
- نعم ، لقد ترك لك رسالة
- ماذا فيها؟
- أوصاني بألا يفتحها سواك
فتحتها بلهفة وقرأتها بحيث لا يراها
ثم قلت :
إن أباك يوصيني بتوصيل حامل المصحف لأصحابه وقد كتب لي العنوان
هل ستأمنني عليه؟
- أنا واثق بحكمة اختيار والدي لك ، كان لا يضع ثقته إلا في موضعها
- أسأل الله أن أكون عند حسن الظن
***
اصطحبت الحامل بحرص متوجها إلى مدينة الفسطاط قاصدا العنوان المكتوب مستشعرا أهمية ما أحمل :رسالةَ حبٍّ وهديةَ توديعِ مقدرا للشيخ الكريم ثقته سعيدا أنه أحس بمدى حبي له في لقائي الوحيد به
فُتح البابُ عن سيدة وقور لم تزدها الشيخوخة إلا وقارا وطيبةً ، سلمتها الهدية والرسالة
قرأت الرسالة فر من عينيها دمعتان وأخذت حامل المصحف بحرص وامتنان ، قبلتْه بحنان
- سبحان الله ، ما أجمله!
جاءت بمصحف كبير ثبتته عليه وقالت:
- سأستهله بقراءة سورة" يس" عليه.
حييتُها متوجها لورشة الشيخ لآخذ عودي بعد أن شد الشيخ أوتاره المتراخية