يقولون، أنها امرأةٌ سيئة، وأنه حين يغادرها النهار، تمتطي مكنستها السحرية، يرافقها عفريت المرايا، لتحصد في آخر المساء رؤوس الأطفال الأشقياء.
اقسم شيخ القرية، أنه رآها تبتلع طفلاً حياً، واتبعته بقطعة شوكولاته، وحين اشتد بها الشبع، دخنت أصابع عشرة أطفالٍ آخرين.
تقول نساء القرية، أنها حين يئست من الإنجاب؛ زارت ساحرةً عجوز في القرية المجاورة، وطلبت منها أن تغتسل بدموع الأطفال الرضع، وتشرب دماؤهم حتى تنفك عنها لعنة العقم؛ فكانت أن استباحت دموع ودماء أبناء زوجها الذين اختفوا ذات فجأة، وحين لم تزل عنها تلك اللعنة؛ اتبعتهم بأطفال القرية، أما زوجها فقيل أنه عفريت المرايا، وقيل أنه فقد عقله.
تناوشتها ألسنُ القرويين، كأنها أسطورة قديمه، أما هي، فحين ماتت فيها الأمومة بفعل الزمن، زرعت في رحمها شجرة زيتون، وأثمرت خيراً كثيراً، كانت تفتح عباءة الأمنيات كل يوم، تعبر بأطفال القرى المجاورة، تهديهم نوراً، وحلوىً، وكان الأطفال يتحلقون حولها كشجرة العيد، يهبونها حباً لطالما افتقدته، وقبلاتٍ لها لذة أمومة رائعة.
كل القرى المجاورة يعرفون أنها حين تصلي، فإن أبواب الاستجابة تُشرع، وأنها حين تبكى في محراب الأمومة يتساقط الدمع جنياً، فينبتُ منه أجنةً من نور، تروي عطش الأمومة الثكلى، إلا أهل قريتها، فهي لا تملك تفكيرهم الغريب، ولا تمت لتصرفاتهم بصلة، فهم نائون عن تاريخ تكوينها، ونائية هي عن نكبات تكوينهم، فقد تعتقتْ في رحمٍ ما خلق للشقاء، وكبرتْ وهي تتنشق الحرية، وتتأصل بها وكأنهما توأمان سياميان لا ينفصلان، وإن فعلا لمات أحدهما على الفور.
هم لم يحاولوا أن يقتربوا منها ويتأكدوا من وجود مكنستها السحرية، ولم ينظروا في مراياها ليتبينوا صدق وجود عفريت المرايا، وهي لم تتعدَ ذلك الخط الفاصل بينها وبينهم، فكل محاولات تعديه تبوء بالفشل والخجل المريع.
في مساءِ كل خميس، تمر بقبر زوجها، تحمل نرجساً، وياسميناً، تقرأ صلواتٍ من رحمه، وسورة الملك والواقعة، تمضي تصارع الذكرى ودمعها، تمر ببيت أولاده، تعلق مع أمنياتها أرغفة الخبز، وتدس من تحت الباب بعض من المال، تقبل الباب ألف قبلة لأنهم نسله، وبقايا رائحته في الدنيا، تترك لهم ورقة صغيرة تكتب عليها (زوروني فقط)، وتتركها بلا توقيع، ولا اسمٍ، علهم يتذكرون روحاً أحبها والدهم ذات عشق.
تعود لبيتها الصغير، لعتمة الصمت حين يطبق عليها أغلاله، لصقيع الوحدة وزمهرير الليل، تعلق خيباتها على الحائط، وتغط في حزن عميق.
يقولون أنها سيئة، لأنها قبلت أن تكون زوجةً ثانية، وتقول أنها ملاكٌ لأنها قبلت أن تحب رجلاً متزوجاً، يقولون أنه سيئة لأنها حرمت أبناءً من أبيهم، وتقول هي طيبة لأنها قاربت بين الأب وأبناءه.
مازالوا يقولون و يقولون، أما هي فقد صمتت عن القول منذ زمن، وتعلمت أن تبلع لسانها دون أن تموت، بابها موصد لا زائرٌ يجود بالوصلِ، وقلبها مشرعٌ للعالم بأسره، في قلبها يتربى ألف طفلٍ على الوفاء، وفي عينيها يتربى ألف طفل على الصدق، أما في روحها فيتربى مليونا طفلٍ على المحبة.
ماتت، ولم يمش في جنازتها سوى أطفال لم تعرفهم ولم يعرفوها، دفنها الأطفال، وأودعوها أحلامهم الطاهرة، وكتبوا فوق قبرها (حقيقتي تعنيني أنا فقط فلا حاجة لك أن تنبش عني طالما أننا نختلف في نوعية الطين الذي خلقنا منه)، ومازال أهل قريتها يحلفون أنهم يرونها تمتطي مكنستها السحرية عند كل غروب، لتحصد أرواح أطفالٍ آخرين!






بقلمي / الرياض 28 أبريل/2010م