"دموع الرجال لا تكفي "



أوقفتٌ تشغيل " التلفاز" منزعجاً ؛ مضطرباً وألقيتُ بأداة التَحَكٌم عن بُعد في الأرض ؛ لم أتحمل ما يحدث .. وما رأيت..
ولما كل هذا.. ؟ ما السبب ..؟
قمتُ .. جلستُ .. اتكأتُ.. قفزتُ من مكاني واقفاً ؛ وأنا أُحَدِثُ نفسي بصوتِ عالٍ صارخاً.. يا الله.. يا الله ؛ لما ترضي بهذا ..؟ أخبرني يا رب .. ؟ ما حِكْمَتَكَ في هذا .. ؟
أرجوكَ يا مولاي .. ألهمني الصبر ..ألهمني الحكمة حتى أعلمَ ..!
طَرْقُ عنيفُ علي الباب .. "رامى" .. "رامي" ما بكَ ..؟
افتحْ الباب .. ماذا هناك .. ؟
أَسْرَعْتُ إلي الباب أَجُرُ خُطاي كالمغشي عليه من المَس ..
خيراً لما تَصْرُخُ .. صَوتَكَ أَسْمَعَ من في المبني كله..
وصل حتى نهاية الشارع ...
لم أتمالكَ نفسي .. تَحَطَمَتْ قواي..
وخَارَ بدني فوق الأريكة القريبة وصَرَختُ في وجههِ :
أفقط سَمِعَهُ من في المبني ..؟
أفقط وصل صوتي لآخر الشارع..؟
ألم تَسْمَعَهُ الحيتانُ في البحر..؟
ألم تسمعهُ النوارسُ في السماء ..؟
ألم تسمعهُ جدارنُ بَيْتنَا العتيق هناك ..؟
ألم يسمعهُ ياسمينُ ضَيْعَتَنا الناعِسُ فوق بابِ الدار..؟
ألم يسمعهُ دُرًاقُ حديقتَنا ..؟
وأنْهَمرْتُ في البكاء وانتحبتُ كالنساء ..
وهو يحاول أن يُهَدِأُني ويلتفتَ حوله بعصبية ..
أأنت بخير.. أأفيكَ شيء..؟
أأفي المطبخ شيء حُرِقْ وأصابكَ بسوء ..
أَجِبْ.. أأحدُ مات..؟
أأهلك بخير ..؟
وكلما سأل ونجيبي يزداد ولا دموع ..
جَمُدَت ْ دمائي في عروقي ..
فَسَمِعْتُ الخنساء تَصْرُخُ في ذاكرتي المتعبة ..
" عيناي جودا ولا تَجْمُدا ألا تبكيانِ لِصَخْرِ الندا..
ألا تبكيانِ الجريءَ الجميلَ ألا تبكيانِ الفتي السيدا..
ورُحْتُ أُردِدُ " عيناي جودا ولاتجـ.... وفاضتْ دموعي سيولاً .. ألا تبكيانِ الجرىء الجـ..." وهو يصيح :
آه ياويلي ... الله يهديك طمئني.. ماذا هناك أعصابي لا تتحمل..؟
قلت له..
نحنٌ لسنا رجالاً يا صديقي .. علينا أن نرتدي عباءة النساء .. علينا قَصٌ شورابنا ونجلس في البيوت ؛ لا.. لا.. حتى عباءات النساء لا نَسْتَحِقَها.. علينا .. ماذا علينا ..
لا يكفى .. حتى هذا لا يكفي ...
ما هو الذي لا يكفي..؟
" الشامُ " يا " فادي " .. " الشامُ " تٌغتصب .." حمص " الأبية تُسْتباح.. و" حلب " الأموية ..و" دِرعه ".. آه يا " درعه " ..
يا وجعي .. يا ألمي وحرقة قلبي..
حاولتُ أن أعود لنفسي من جديد.. خفضتُ صوتي قليلاً..
واقتربتٌ منه.. اسمع " فادي "..
صديقى ..علينا أن نذهب..
علينا أن نسافر إلي دمشق ..
لماذا نجلسُ هنا..؟ ماذا نفعل هنا ..؟
علينا أن نعود .. بلادُنا تنادينا ..
أخبرني الآن .. ماذا نفعل هنا ..؟
أُخْبِرُكَ أنا..
نقوم في الصباح الباكر بعد غطيط في نوم عميق ..
وهم لا يناموا أصلاً..
نَلْبُس أفخمَ الثيابِ .. وهم يموتون ولا يكفنوا ولا يدفنوا..
نقود السيارة المكيفة ؛ الباردة ..
وأشلائهم تُجَرُ في برادات الخُضار إلي أين..؟ لا أحد يدري.
والجرحى .. أتعلم ماذا يفعلون بهم إذا راحوا إلي المشًفى .. يستكملوا جُرْمَهُم ..
نذهبُ إلي مكاتبنا المكييفه .. نَشْرَبُ " المَتْه" والقهوة التركية وهم يشربون الذل والمهانة .. الم تسمع صيحاتهم .. عَبْرَ " الشاشات "
" الموت ولا المذلة"
"بالروح.. بالدم .. نفديك يا درعه"
ماتوا قُتٍلُوا نُكِلَ بهم .. أخواتنا يا "فادي" أمهاتنا.. بناتنا ..
ليسوا في" كوسوفا ".. ليست " البوسنه "..
عُزَل ْ.. صدورُ عارية ..
" الله ..سُورِيه.. حرية و بس.. "
"سلمية .. سلمية.." هم عرب .. " سوريون "..
أحرار .. الله خلقهم أحرار..
أخبرني بالله عليك يا صديقي ألسنا عاراً عليهم ..؟
ننام في أحضان زوجاتنا ونلاعبهم ونداعب أطفالنا ..
وهم حتى لا يستطيعوا دفن موتاهم .. هم شهداء.. أليس كذلك ..؟
شهداء صحيح .. لما لا تجيب ..؟
ابتلعتَ لسانكَ .. تكلم أخبرنى .
جلسَ "فادى" ينظر إليً وعيناه غارقةُ في بحرِ من الدموع..
ووجنتيه تخضبتْ بدموع ِ غَمَرَتْ لحيتهُ البيضاء الوقورة..
واحمرت عيناه الزرقاء الجميلة .. وحركَ شفتيه ببطيء شديد .. نحن لا نملكُ سوي الدموع والدعاء لهم ..
لملمتُ انفعالي المبعثر في الغرفة ..
و حاولتُ أن أُزيلَ تلك الفوضى من فوق ملامحي..
واقتربتُ من أريكتهِ وهمستُ في أذنه..
هل قمتَ بالدعاء لسوريا اليوم يا صديقى .. !؟