_ " الجرافات في طريقها لقصر الشيخ خزعل !!"

صرخ علي في وجه زملائه في الصف. قفز خليل من مكانه ليضع يده على فم علي و بالفارسية وجه له الكلام: " اصمت! اصمت ماذا بيدنا؟ "
أبعد يد خليل عنه ورد مستنكرا بالعربية : ماذا بيدنا ؟ لا شيء!! نجلس على هذه المقاعد المهترئة ، نستمع لأكاذيب تأريخ ليس تأريخنا ، ندرس لغة محتلنا ، نحني جباهنا و نلتقط قمامتهم ، و المحظوظ فينا من يتكرمون عليه بمقعد في جامعتهم ليعود عميل أو جاسوس على أهلنا !!
حدقت أزواج من الأعين فيه. كانت تدرك هذا الكلام ... يختلج في صدورها... يعمل فيهم عمل الهواء في أرواحهم لكن النطق به جهرا ضرب من الإنتحار.
وقف علي في منتصف الصف وقال : من سيذهب معي لوقف هذه الجرافات ؟؟
كان الجواب أفواه فاغرة و نظرات مستنكرة ، لكن علي لا يرَ غير قصر الشيخ خزعل و الأقدام التي تستحث الخطى لمحوه عن الوجود .
قال خليل بتردد : لن أذهب. لست مستعدا لحبل المشنقة بعد. إن سجنتَ، فإن لدى أهلك ما يكفي لدفع غرامة خروجك.
تجاهل علي الرد عليه، و غير نغمة حديثه لتكون للتوسل أقرب: هل تعلمون ماذا يعني أن يهدموا قصر الشيخ خزعل ؟ يعني 89 سنة من الإحتلال توجت بهذا الهدم. لن يبقَ من يتذكر أننا كنا يوما دولة ذات سيادة ، ذات كيان مستقل!!
نظر إلى تلك الوجوه الشاحبة تأملها للحظات و أمّل، لكن أحدا لم يقف بل أعين تتجنب النظر إليه و تهوي إلى الأرض. زم شفتيه بغضب سحب حقيبته ثم قفز من النافذة.
ركض بأسرع ما يمكنه .اختبأ خلف كومة قش بجانب نخلة عطشى . تربض الجرافات في ساحة القصر كتنين يكتم لهبه. لم يشرعوا في الهدم بعد . سأل نفسه:هل أتيت لأشاهد بنفسي كيف يهدمون القصر؟
"ماذا بيدنا" تذكر اعتراض خليل.
شعر بيد تمسك كتفه. جاهد ليلتفت. كان حاتم، و رضوان ، وعاشور يصطفون منحنين خلف النخلة العطشى و ابتسامة وجلة على وجوههم تطمئنه.
قال عاشور بصوت خفيض وهو ينظر إلى عينيه : لم نستطع أن نقول شيئا في الصف أنت تعرف ... أشعر بأنه لا فائدة من أي شيء قد نفعله لكن ... قلنا ماذا نفعل ؟
- لابد أن نعطل عمل الجرافات ، نحتاج إلى مسامير، قطع حديد ، إطارات ، و بنزين. سيظنون أن المهدي غاضب عليهم !!
كتموا ضحكاتهم. انبرى عاشور وحسن لذهاب لإحضار ما يحتاجونه. و لما جن الليل تسلل علي و ملأ باحة القصر وعتباته بالمسامير و غرس بعض قطع من الحديد بين عتلات وشفرات الجرافات.
*************
"بقي على الإنتفاضة النيسانية يومان فقط أليس كذلك؟" قال علي لأخيه الأكبر حسن.
حسن في الخامسة و الثلاثين من عمره. كل ما يعرفه الناس عنه أنه حصل على أعلى الدرجات، و تخرج من جامعة مرموقة في عاصمة المحتل ، لكنه فشل في الحصول على وظيفة فرجع للمحمرة ليساعد والده في مزرعته.
-لماذا تسأل يا علي؟
اتكأ علي على كوعه وهو مستلقي و قال -هل تذكر الشهيد ريسان ؟
- ومن ينساه ! قال حسن وهو يحدق في النجوم المتلألئة في السماء بوضوح.
- لا أعرف لماذا اليوم استيقظت على صورته وهو يقبل حبل المشنقة ؟! هل الشنق مؤلم يا حسن؟
- "لا أعلم, و لا أريد أن أعلم" رد وهو يفرك سبابته بإبهامه بعصبيه حاول أن يخفيها.
- كنتَ صديق للشاعر هاشم شعباني، أليس كذلك؟
- لا ! أقصد الشهيد هاشم كان يؤمن بأن النضال السلمي سيؤدي نتيجة مع العدو و مع هذا أعدموه .
- و أنت؟
- ماذا؟
- أريد أن التحق إليكم.
- أنت وعدت بأن تلزم الصمت و ها أنت تنقض وعدك.
- أنا لم أنقضه فقط أريد أن أكون معكم. لم أعد أحتمل.
- عليك أن تبقى مع والدي إن حصل لي شيء.
- أسمع يا حسن! إن لم ألتحق بكم ستسمع بخبر شنقي في القريب العاجل. لا أريد أن أموت على مشانقهم.
- ماذا تقول؟
- لقد تحدثت في الصف عن هدم قصر الشيخ خزعل وقمت مع أصدقائي بتعطيل الجرافات وحرق أحدها.
- هل جننت؟
- نعم جننت لذا لابد أن أنضم إليكم.
**************************

العشرون من نيسان
الشوارع تمتلئ بالهتافات المنددة بالإحتلال , و الإعتقالات على قدم وساق. مشهد يحفر أخاديده بعمق في سجن كبير كان في أحد الأيام فردوسًا يستلقي بكبرياء على سواحل الخليج العربي و تطلق السفن البريطانية و البرتغالية المدافع تحية له إجلالاً ترجو بها الإذن بالعبور .
تقف رافعة من شركة هونداي اليابانية مطأطئة الرأس رغم أن قائدها يرفع الجثة المعلقة في طرفها لتوازي أشعة الشمس المتدفقة من كبد السماء و صوت أحد الضباط في الأسفل يأمره بأن يرفعها أكثر، فينتشي كلاهما.
يقف علي وعاشور على منصة ارتفاعها متران معصوبي الأعين تلتف حول الأعناق حبل المشنقة، و محاطان بكتلة بشرية ، و التكبير يضج المكان.
- قال لي أنه سيأتي. يهمس علي بالعربية لعاشور.
لكن عاشور أعد حمامة روحه وكفنها, و أخذ يسرح بعيدًا عن حبل المشنقة الذي يلتف حوله كالأفعى، و بعيدا عن علي و وعوده ، و عن الأصوات الهادرة من حوله، عن أمه التي تقف أمامه و التي ألجمها مرآه، وعن الغد الذي لم ينتظره أبدًا .
_ هذا جزاء من يحارب الله ورسوله !! يصرخ الضابط بالفارسية مرارا في الجموع العربية الحاشدة الغاضبة. بعضهم ارتدى الزي العربي يتوارى خلف نقمته.
يبتلع علي ريقه بصعوبة. يتمنى فقط لو تزاح عن عينيه هذه العصابة لثوانٍ. والتفكير في حسن و وعده يرفعه و يخفضه. الجموع تقترب أكثر و أكثر من المنصة وصوت حسن يزداد وضوحًا يمسح على قلب علي.