نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
خمسون
.
.
.
.
.
.
بعيداً هنالكَ
حيثُ السّماءُ على قابِ آهٍ تُظِلُّلُ سَقفَ البيوتِ التي خَلّفتها الخِيامُ
تُجَفّفُ دَمعَ العواجيزِ يبكونَ دفءَ البيوتِ التي خَلّفوها
وَظلّت بأهدابِهمْ أينَ حلّوا وقاموا.

بَعيداً هنالِكَ – مِن قبلِ خمسينَ -
صافَحتُ لِلمرّةِ البِكرِ صَخبَ الحياةِ
تَنَفّستُ لِلمرّة البِكرِ زفرات دايَةِ حيّ الصّفيحِ
رَأيتُ على الأرضِ سَقفَ البَرَكْسِ
ولامسَ جسمي الضّئيلُ هواءَ المخيّمِ
عانقتُ قلبي، مَلاكي التي روحَها قاسمتني
قصيدَ الحياةِ، وَنكبةَ أهلي حليباً تقطّرَ من صدرها أرضعتنيً
هُنالَكَ، رنّ بأذني الشّمالِ وللمرّةِ البِكرِ أيضاً رخيمُ الأذانِ
وصوتُ الذي لا يراني – بكلِّ الحنانِ - أتاني
أيا مرحباً، أعطُونيهِ أراهُ
فَقدْ بَشّرتني بِعُرسِ القُدومِ الطّيورُ وغنّى الحمامُ.

بَعيداً هنالِكَ مِن قبلِ خمسينَ
مِنْ قبلِ بِضعٍ وستّينَ – في صُلبِ ذاكَ الشّقيِّ
افْتَتحتُ بِدربِ المواجعِ سِفرَ المنافي
حَملتُ على حَرفِ قلبيَ صَبرَ الحواكيرِ
أقتاتُ أشواكَهُ في سِنِيَّ العِجافِ
أُمَنّي العِظامَ بِسودِ الليالي الحنينَ لِحافاً
ولا شيءَ إلاّ بُروجُ السّماءِ لِحافي
تُبعثرني الرّيحُ أينَ استدارتْ
ويزرعُ مُرُّ انتظاري جَوىً في شِغافي
شَمالاً فَشرقاً
جَنوباً فَغرباً
شَمالاً فَغرباً، شَمالاً شَمالاً إلى نائياتِ الضّفافِ
وحيثُ لم يبقَ بعدَ الشّمالِ شمالٌ يُرامُ
وما عُدتُ يوماً لحيثُ ابْتدأتُ
وَلا مَسَّتِ الرّوحُ أرضاً مَشَتْ جَدّتي فَوقها حافِيَهْ
وَأوقَدَ فيها فُؤادي قَناديلَهُ الغافِيَهْ
وَذابَتْ عِظامُ جُدودي بِتُربَتِها الصّافِيَهْ
وَطابَ لَهُم في التّجاويفِ مِنها المَقامُ.

كَأنّكَ يا عُمرُ أمسِ ابْتَدأتَ
كَأنّكَ يا أمسُ مِن قبلِ خَمسينَ في طرفِ عيني تَنامُ
أرانيَ أحبو وأنتفُ قشَّ الحصيرِ
على ظهرِ جدّي الكفيفِ، أنا فارسُ العادياتِ الهُمامُ
وفي حُضنِ سِتّي عَلى جاعدِ العيدِ
مُسترِقاً حُلمَها بالرّجوعِ أنامُ.

كَأنّكَ يا عُمرُ أمسِ ابْتَدأتَ
كَأنّ الذينَ امْتطوا مَوتهمْ مُنذُ دَهرٍ
عَلى خافقي مُنذُ دَهرٍ أقاموا
إذا ما الْتَفتُّ بِبعضِ سلامٍ بِليلٍ
يُرَدُّ على الفورِ مِنهم بِأحسنَ مِنهُ السّلامُ
يَقولونَ أهلا
ويُشرقُ فوقَ الوجوهِ قُبَيلَ انْبلاجِ الصّباحِ اْبتِسامُ
بعيدونَ مهما اقتربتُ
قريبونَ مهما ابتعدتُ
فُؤادي لَهمْ جَنّةٌ ومقام.ُ

بَعيداً هُنالِكَ ...
حيثُ السّماءُ على قابِ آهٍ وَلَوعَهْ
بَعيداً هنالِكَ ...
مِن قبلِ خمسينَ كانَ مَخاضُ البِدايَه
بَعيداً هُنا ...
حَيثُ تَجثو السّماءُ على قابِ قبرٍ وَدَمعهْ
بَعيداً هُنا ...
بَعدَ خمسينَ
آمَلُ ...
ألاّ يُخَطُّ نِزاعُ النِهايَه
وألاّ يعمَّ الظلامُ.

في الصورة: أنا بعمر سنتين ونصف على ظهر جدي الكفيف أبو هويّن
وأخي المرحوم أيمن وأبناء عمي كامل ومحمد
في بيتنا في مخيم العائدين في حمص نيسان 1963