لعنة حوريّة الجبـَال
كنت كلّما قًرأت لًك قصيدة، كأنمـا أقْرأ تراتيلَ مقدّسةً؛ فحروفك حِيكت بأناملَ تشق لِي عباب البَحر، أسير عليه بخطى ثابتة، أحطّ رحالي فـي البرْزخ، أمتَطي السّحاب، أقفز بين المجَـرات، أصطنع من عناقيدها قلادة، أراقصك على عتبة فوبوس بلا وجل، و على قارعة ديموس يفـر الرعب حين تقف عيوني؛ إلى زحل أمضي ، لا شتاء و لا ثلج يمنعني، فتوهجك يذيب الجليد إذا لامسه نورك..
ساحرٌ مبدعٌ، و قريحتُك نهـرٌ جارٍ يحيي الميْتَ في الأرض البور؛ فحين تتلو عليها نصفَ حرفٍ تنتشي من زلالك فتهتز و تربو لِتخرج ثمرا،
و شجرا إلى ظلالـه أفيء..
وأبجديتك مفعمةٌ، وَلـودة بولدان مخلدين، ناضجةٌ، مثمرةٌ بعنب و زبيب مجفف، نبيذٌ و أقداحُ عسل مصفَّى، زكيةٌ، عطرةٌ، ياسمين و سوسن
و ريحان؛ يفوح شذاها عبقـا.
ما بالها الآن مزنك لا تسقط غيثا و لا تسقي حرثا ؟
فقل لي ، هل أصابك جفاف عابر أم أن لغتك ماتت و النبض في حرفك يحتضر؟!
ماعادت قصائدك عذبة ولا شهية، حتى الأصداف من شواطئها اختفت، هل حُملت جُفاءً مع الزبد؟ أم ابتلعها الموج، و أحرفك ما عادت أسطورتي، بعد أن كانت معراجي إلى فردوس الجِنان، أضحت تقذف بوجداني إلى بطن النون، إلى ظلمات بلا نـور.
أم تراهُ أصبعُ "أنجيرونا" ترك شفتيها و حطّ على شفتيـك؛ فأخرسك و بَسط وشاحه ليعلن ساعة المغيب، و أفول نجم حرفـك؟
أو لربما أصابتك عيون "ميدوزا" فتحجرت أبجديتك، ويا أسفي؛ فأنا لا عصا موسى لديَّ؛ فألقيها عليها عساها تتفجر قصائدَ و سطورا،
و تفيض حتى ما تكفيك المحابـر و لو مُدَّتْ أقلامُك بحوراً..
يراودني فيك شك و ريب يعبث بالقلب، يلوّث اليقين؛ فما عاد منك النور يأتيني، ارْتد قلبي عن هوى أبجديتك بعد أن تجمدت حروفها،
و اختفى النور من شمسها المكسوفة، و أنا المتجددة في سطوعي أهوى القصائد المتفجرة، الولودة.
"نرسيوس" أنت، حين توهمت أنّ الحروف طينة بين يديك، صاغرةً تأتيك، تلبي نداءَك كلما عليها ناديت، من سور الصين إلى برج بيزا، أو من أعلى شعلة بيمين تمثال الحرية، تسقط فداءَ حرفك؛ إن أنت بالإعدام عليها حكمت.
هي لعنة حورية الجبال أصابتك فقد شغفتها حبا فألهمتك سحرا، و أنطقتك شعرا فنأيت عن هواها، و خذلتها؛ فصارت السّماء حبلى بوجع خيبتها، ما اكتفيت بآنية شغفها، و لا قدح شهد شفتيها.
عشقت الكؤوس من حولك، و نمارق مصفوفة، و مائدة نصبت عليها قوارير شراب الحياة، فرحت تراهن عليها بشعرك، واثقا؛ فنرجسيتك تؤيدك،خسرتها حين سَالت دَمعة من عينها، كانت قطرة أفاضت جميع كؤوسك، فجرف الطوفان كلّ مَا تملك، و لم يبق لك إلا سديم قصائد مهترئة، و أديم كتاب لقصة انتهت فصولها بلعنة امرأة بكَت لبكائها السّماء



رد مع اقتباس
