كانت لمسة

لمْ يكنْ اللقاء الأول الّذي جمعني بفراس _ في الصفِ الثاني الابتدائي _ مفرحاً لأيٍّ منا ,

مُدَرِّسة للرَسم , تَعني , دفترَ رسم, و علبة ألوانٍ, و التزام بإتمام الرسوم, و هو أمرٌ لا يكاد يطيقهُ الطالب المجتهدُ, فضلا عن طالب لا يبالي بالدراسة مثل فراس.

لمْ تكن تلك الندوبُ التي يحملها وجههُ تشجعكَ على التفاهمِ معه, و لم يكن صوتهُ القوي, و صراخهُ في وجهِ رفاقه, يأذن لك بالحديث الناصح المنمق, كانَ فراس أمامي كتلةً صماء.

سبب لي وجوده بين زملائه مشكلة حقيقية, فهو لا يتوانى عن رَكل هذا, و ضربِ ذاك, و العبثِ بأقلامِهم و رسوماتهم, و رَبما رميَها بعيدا, لأجد الصف في لحظات و كأنه مستشفى للمجانين.

و لم أملك حلا لضمان مسير الدرس, إلا أن أقف بفراس على طاولتي , و أقدم له بعض أوراقي, و أستعير له أقلام التلوين, ثم آمُرهُ بالرَسم مع تقطيب الجبين, و أحرص حينها على البحث عن مكان ما في لوحته, يحمل بصيص أمل, فأشجعه, و يبتسم هو بسرور.

و ما إن يلمح بصيص ابتسامتي, حتى ينطلق بحديثه الذي لا ينتهي, و كنت استمع بدهشة تارة, و أرغم نفسي على الاستماع تارة أخرى, في محاولة لجعله يفتح تلك الأبواب المغلقة بيننا.

شيئا فشيئا بدأت ملامح وجهي تتغير في مواجهة ذلك الوجه الصغير, و بدأت ألمح في زجاج عينيه ألوانا من البؤس, و من حديثه المتواصل أستشف الكثير من ألامه و معاناته, علمت أنه يتيم الأبِ منذ عامين و أن زوج والدته رجلٌ سكير, و رأيت بعضا من أثارِ غضبه على جسد الغلام الصغير.

أخبرني عن أولاد الحي و محاولاتهم المستمرة للشجار معه, و عن جوعه و إخوته الصغار ..

و لم أزد على تقديم قطعة سكر له, أو أكتفي بالاستماع دون تعليق؛ كنت أريده رجلا فقط.

دخلت الصف فوجدته قرب الطاولة, و دفتر رسم جديد ينتظرني, و ابتسامة, وعلبة تلوين, كنت أدرك جيدا أنه حرم نفسه من قطعة حلوى ليرضيني بما اشترى, وجدتني أشرح درس اليوم, و أسرع إليه, لأجده يرسم بتطور ملحوظ.

رفع رأسه نحوي مبتسما ينتظر كلمة مديح.

أحطت وجنتيه الصغيرتين بكلتا يديّ , ابتسمت , و قلت بفخر :

- أحسنت يا بطل

عاد يلون بسرعة, دون أن ينسى شروطي الصعبة, أقصد التي كانت يوما صعبة عليه.

- ألون باتجاه واحد و أملئ كامل الصفحة باللون ..

و كان نصيب اللوحة أن تعلق يومها في معرض المدرسة الدائم , وسط فرحة و بريق عيني الصغير.

في الصباح التالي دخلتُ المدرسة , و وجدته يقترب مني , رافعا يده مستعدا للمصافحة .

مددت يدي مبتسمة, فضرب بكفه على راحتي بقوة كما يفعل الأشداء, لاحظت شعرا مسرح, ووجها يشع نظافة و ابتسامة عذبة .

قال و هو يساير خطواتي :

- كيفَ حالكِ اليوم يا آنسة ؟



عبير النحاس.



من المجموعة القصصية تلميذة الرومان.