خمس صفحات من كراسة المجنون
شعر: د. حسين علي محمد
(1)
*آخُذُكِ إلى شجَرِ الظِّلِّ ، وأُبعدُكِ عن القيْظِ ، وأخرجُ من دائرةِ الحُزنِ ، وأشدو في الطرقاتِ المُكتظَّةِ بالشعرِ العاصفِ :
لمْ أولدْ في اليوْمِ الخامسِ منْ مايو ، بلْ في اليوْمِ الخامسِ والعشرينْ
*انبثقتْ قصَّتُنا حينَ دخلْنا ـ ثانيةً ـ مُدُنَ الحلمِ معاً ، أفتحُ أبوابَ الدّهشةِ ، أدخلُ وأقولُ القصَّةَ للعالَمِ ، قلبي سكرانُ وأنتِ تقولينْ :
*"هذي المدُنُ السمراءُ تُحبُّكَ ، تفتحُ أُذنيْها كيْ تسمعَكَ .." وما زِلْتِ تُغنَّينْ
*أفرحُ بعطائكِ إذْ تقتَحِمُ الأصواتُ الأسوارَ ، وأنتِ مع الصُّبحِ تهلِّينْ
*لا أعبأُ بالجمْعِ الحاشِدِ إذْ يَتَشرْنَقُ حوْلي ، لا أعْبأُ بعيونِ القَتَلةِ إذْ تقْتَحِمُ الجَسَدَ المثخنَ بجراحِ الفقْدِ العاتي .. مادمْتِ تعودينْ:
أعُدُّ الليـــالي ليْلةً بعْـدَ ليْلةٍ
وقدْ عشْتُ دهْراً لا أعُـدُّ اللياليا
أراني إذا صلَّيْتُ يَمَّـمْتُ نحْوَها
بوجْـهي وإنْ كانَ المُصلَّى ورائيا

وما بيَ إشْراكٌ ، ولكنَّ حُبَّهــا
كعُودِ الشَّجا أعْيا الطبيبَ المُداوِيا
أُحبُّ من الأسماءِ ما وافقَ اسمَها
وأشبهَ ، أوْ ما كـانَ منهُ مُدانِيـا
هيَ السِّحْرُ إلاّ أنَّ للسحْرِ رُقْيَةً
وإنِّيَ لا ألْفى لهــا الدّهْرَ راقِيـا

(2)
*تسألُني عيْناكِ:
عرفتُكَ تعشقُني مُذْ كنّا طفلِيْنِ نجوبُ العالمَ ، نكتشِفُ الأشياءَ فمنْ أقصاكِ سنيناً خمْسا ؟
*يصدُقُني وجْهُكِ :
كيْفَ أتيْتَ الآنَ جريحاً مطْعوناً ، تحملُ وجْها مُقْتَحماً بحِرابِ الرِّجسِ ، وصوتُكَ يحملُ أنداءَ بكارتِهِ الأولى : هلْ عُدْتَ إليَّ عواصفَ عِشْقٍ منْ زمنٍ ولّى كيْ تبْعثَ في القلْبِ الهامِدِ نبْضاً .. حِسَّا ؟
يٍسْألُني صمتُكِ :
غِبْتَ سنينا عنِّي .. غبتُ سنيناً عنكَ ، ومازالتْ جذوةُ عشقِكَ في القلبِ .. تُدمدِمُ وتفورُ ، فكيفَ امتلأتْ روحي حُزناً ، وأنا أمتلئُ بوجْدٍ يعصِفُ بالجسَدِ ، وحبُّكَ في صدْري أخْشى أنْ يُبصِرَهُ الجمْعُ الحاشِدُ :
هلْ يعرفُ أصحابُكَ قصَّتَنا ؟
هلْ فهِموا منْكَ حكايتَنــا ؟
وأنا أذْوي ، ينْطفئُ رحيقي ، يخرُجُ منْها الصوتُ الحاني
همساً
همساً
همسا :
نهاري نهارُ النّاسِ حتى إذا بــدا
ليَ الليْلُ هزَّتْني إليْكِ المضــاجعُ
أُقضِّي نهاري بالحــديثِ وبالمُنى
ويجمعُني والهَــمَّ بالليْلِ جامِــعُ
لقدْ ثَبَتَتْ في القـــلْبِ منْكِ موَدَّةٌ
كما ثبتَتْ في الرَّاحتيْنِ الأصـابـعُ

(3)
*أحببتُكِ ، لكنَّ الأسوارَ العاليةَ بوجْهي تمنعُني أنْ أصدقَكِ القوْلَ ، دعيني أنْطِقْها يوْما:
*بسمِ اللهِ ،
توكَّلْتُ ،
وأقبلْتُ ،
خذيني جسَداً ميْتاً ، صُبِّي نارَ الوصْلِ ، دعيني أتبرْعمْ في كفَّيْكِ وأستجْمِعْ أشتاتِ النفسَ ، وأُبْعِدُ عنْ عينيَّ عذاباً جمًّا
*قولي إنَّ الحبَّ كبيرٌ في قلبيْنا ، لنْ نكتُمَهُ ، قولي إنّا في العِقْدِ الرابعِ منْ عُمْريْنا نولدُ ، أمْ يتركُني وجْهُكِ ألقى الموتَ غريباً ووحيداً ؟ يفجؤني عزريلُ الليْلةَ إذْ يمتدُّ الشَّجَنُ ، وينصُبُ قُدَّامي الشَّرَكَ ، فأُبصِرُ أرضي بوراً ، أبصِرُ هذا النَّبْعَ الطيِّبِ سُمَّا
فأنتِ التي إنْ شئْتِ أشقيْتِ عيشَتي
وإنْ شئتِ بعْد اللهِ أنعمْــتِ بالِيـا
وأنتِ التي ما منْ صديقٍ ولا عِـدا
يرى نضْوَ ما أبقيْتِ إلا رثى لِيـا

(4)
*وجْهُكِ يُحييني إذْ يُشرِقُ في دُنيايَ كبدْرٍ في الظُّلمةِ ، أشرعةُ الماءِ تجيءُ ، يفيضُ النهْرُ ، وحبُّكِ لا يهْرَمُ ، والذّاكرةُ الطِّفلةُ منقوشٌ فيها وجهُكِ منذُ العهْدِ الأوّلْ
*أحمِلُ أعوامي شُهُباً فوْقَ جبيني ، قلبي عصفورٌ زقزقَ بيْنَ يديْكِ كثيراً ، في أعوامِ الهجرةِ لمْ يتبدّلْ
وإنِّي لأخشى أنْ أمُـوتَ فُجـاءةً
وفي النَّفْسِ حاجاتٌ إليْكِ كما هيا
وإنِّي ليُنْسـيني لقاؤكِ كلّمـــا
لقيتُكِ يوْماً أنْ أبُثَّكِ ما بِيــــا
وقالوا بِهِ داءٌ عياءٌ أصابَـــهُ
وقدْ علِمَتْ نفْسي مكـانَ دوائيا

(5)
*أرحلُ منْ أرضِ اللهِ إلى أرضِ اللهِ ، ومنْ قَدَرِ اللهِ إلى قَدَرِ اللهِ ، وأتركُ أرضَكِ وثمارَكِ ، أترُكُ أعنابَكِ ، أغتربُ وحيداً إلاّ منْ حُبِّكَ يا وجْهَ حبيبةِ قلبي ، يفجؤني القيْظُ فأذوي شيئاً شيّا
*يتقاذفُني الشوْكُ ، وينبُتُ في صدْري شجرُ العوْسجِ ، لا أقدرُ أنْ أُعْطي بعضَ عطائكِ ، لا أملكُ غيْرَ القلبِ الطّيِّبِ ، أخلعُهُ منْ صدْري ، أتركُهُ بينَ يديْكِ ، وأخرجُ للأرضِ النائيةِ نباتاً صحْراويًّا !
*أهرُبُ منْ كلِّ الأوجُهِ إذْ تتشرنقُ حوْلي ، تجْلدُني وتُطارِدُني : هذا المجنونُ الليلةَ يسقطُ مطعوناُ وقصِيَّا
أظنُّ هواهـــا تاركي بمضَــلَّةٍ
من الأرضِ ، لا مالٌ لديَّ ولا صحْبُ
ولا أَحَــدٌ أُفْضي إليْهِ وَصِيَّتــي
ولا صَـاحبٌ إلا المطيةُ والرَّحْــلُ
ديرب نجم 3/6/1982م