الحبل "للأديب و الشاعر مازن لبابيدي
حَاوَلَ جاهِدًا أَنْ يُثْنِيَهُ عَنْ الفِكْرَةِ التي اسْتَوْلَتْ عَلَى تَفْكِيرِهِ فَلَمْ يَعُدْ يُصْغِي لِنُصْحٍ أَوْ يَعْبَأُ بِخَوْفِ مَنْ يَهُمُّهُمْ أَمْرُهُ عَلَيْه ، وَبَعْدَ أَنْ يَئِسَ مِنَ المُحاوَلَةِ رَاحَ يُشَدِّدُ عَلَيْهِ النَّصِيحَةَ فِي أَنْ يُحْكِمَ قَبْضَتَهُ عَلَى الحَبْلِ الّذي يَصِلُ بَيْنَهُمَا وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى بُوصَلَتِهِ مِنْ أَنْ تَتَأَثَّرَ بِتَيَّاراتِ الجَّذْبِ الشَّديدِ فَيَضِلَّ طَريقَهُ وَيَنْحَرِفَ عَنْ وُجْهَتِهِ ، وبَقِيَ مُمْسِكًا بالحَبْلِ بقُوَّةٍ مِنْ طَرَفِهِ الأَعْلَى رُغْمَ أَنَّهُ مَعْقُودٌ إِلَى سَارِيَةٍ راسِخَةٍ خَوْفًا وَشَفَقَةً عَلَيْهِ ، لَكِنَّ الحَبْلَ بَقِيَ مَشْدُودا وقَوِيًّا لِوَقْتٍ قَصيرٍ قَبْلَ أَنْ يَتَأَرْجَحَ بِقُوَّةٍ ثُمَّ يَضْطَرِبَ شَدَّةً وَرَخَاوَةً فَحَاوَلَ لَهَِفًًا أَنْ يجذبه بَحَرَكاتٍ حَائِرَةٍ مُتَتَابِعَةِ مُتَرَدِّدَةٍ لئِلاّ يَنْقَطِعَ وَلَكِنَّ الحَبْلَ لانَ أخيرًا فَأَخَذَ يَسْحَبُهُ والدّمْعُ يَنْحَدِرُ مِنْ عَيْنَيْهِ ... وطَفَا عَلَى المَاء .


نالت القصة القصيرة بنوعيها المكتوبة أو المروية مُشافهةً أهميةً كبيرة منذ القِدَم لما تؤديه من دورٍ في نقل العِبرة و الفائدة و تعليم الدروس بأُسلوبٍ غير مُباشر ,حيثُ يقوم الأسلوب السردي الذكي بالاستيلاء على اهتمام القارئ و جذبه ,تخاطب القصةعُمق القارئو إدراكه و وعيه فاتحتاً أمامه عوالم لم يكن يراها من قبل ,تُعرفه على أشخاصٍ لم يسبق له رؤيتهم ليتعلم من حياتهم دروساً و عبر دون أن يخوض هو غمار التجربة التي مروا بها غيره .

في قصة "الحبل" للأديب الأستاذ مازن لبابيدي يتم عرض مشهدٍ برمزيةٍ و تكثيفٍ فيدخل القارئ إلى عالمها السردي باحثاً في ثناياها عن تصورٍ أو تأويلٍ لما قرأه , و لكنه يقف حائراً عند نهايتها فهو قد خرج منها بتأويلاتٍ مُتعددة حائراً أيُها يا تُرى ما كان الكاتب يودُ إيصاله؟ أيُها الأصح و الأنسب؟ هذه التساؤلات تدل على نجاح الرمزية و دقة توظيفها بنجاح في القصة , الأدب الذي يعيشُ طويلاً هو الذي يحمل تأويلاتٍ مُتعددة فلكل قارئٍ رؤية تناسب فكره و نظرته و تأويله وقد يختلف مع قارئٍ آخر حول تأويل الرموز و هذا الاختلاف يُسهم في إغناء المشهد الثقافي مولداً حالةً جدليةٍ رائعة حول نصٍ ما .

بدءاً من العنوان " الحبل" نجد عدة تأويلاتٍ لمدلوله ,أول ما يتبادر إلى الذهن الاعتصام بحبل الله و عدم الابتعاد عنه . بالنظر إلى كلمة حبل في القرآن الكريم نجد أن لمدلولها عدة أوجه , يقول تعالى "وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ و َٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أعداء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " كان لكبار المُفسرين من الصحابة عدة آراء في تفسيرها , يقول ابن عباس رضي الله عنه أن تفسير الحبل هنا هو العهد والميثاق, و يقول الأعشى
وإذا تُجَوِّزها حبالُ قبيلةٍ ...أخذت من الأخرى إليك حبالَها

و قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه أن الحبل مجازٌ يدل على القرآن ,روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله قال: " كِتَابُ اللهِ هُوَ حَبْلُ اللهِ المَمْدُودُ مِنَ السَّماءِ إَلى الأرْضِ "وفى الحديث: "القرآن حَبْل ممدود بين الله وبين خَلْقه، فمن تعلَّق به نجا، ومن فاته الحبلُ هلك وهَوَى". "قيل أيضاً أنه دين الله وهو الإسلام، وهذا قول ابن زيد و قيل أنه عهد الله، وهو قول عطاء,و هو الإخلاص لله والتوحيد، وهو قول أبي العالية,و هو الجماعة، وهو مروي عن ابن مسعود, وسُمَّي ذلك حبلاً لأن المُمْسِكَ به ينجو مثل المتمسك بالحبل ينجو من بئر أو غيرها.))*تفسير العيون و النكت للماوردي .

العنوان يمنح القارئ عدة تأويلاتٍ للحبل الذي انقطع فقد يكون انقطاع علاقته بربه و ربما يكون سبب الانقطاع موته ففي آخر مشهد "وطَفَا عَلَى المَاء ." يدرك القارئ نهاية وجود ذلك الرابط , لا نعرف تحديداً فيما إذا كان الحبل هو الذي طفا أم أن من يُمسكه قد طفا على صفحة الماء لكن ما يهم هو معنى الانقطاع .

وجاء في الصحاح أن الحبل هو الوصل ,قد يكون انقطاع الحبل دليلاً لانقطاع الوصل و العهد بينه و بين ذلك الصديق الذي بقي له مُخلصاً ناصحاً و لم يتركه بالرغم من أنه لم يأخذ بالنصيحة و تمسك برأيه و حقه في خوض غمار التجربة ,لا نتعلم من تجارب غيرنا و نتمسك بحقنا في عيش التجربة حتى لو كنا نُدرك مُسبقاً فشلها , نجتهد غير مدركين أن اجتهادنا و بعدنا عن حبل الله هو سبب هلاكنا .يقول المتنبي
إذا كان عون الله للمرء شاملاً ... تهيء له من كل شيء مراده
وإن لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجنى عليه اجتهاده

"فلَمْ يَعُدْ يُصْغِي لِنُصْحٍ أَوْ يَعْبَأُ بِخَوْفِ مَنْ يَهُمُّهُمْ أَمْرُهُ عَلَيْه "لكن الله يرزقنا من يربطنا بجادة الحق و ينصحنا فيكون هؤلاء الناس هم الحبل الذي يربطنا يحفظ توازننا و يحمينا هم البوصلة التي تدلنا على الاتجاه الصحيح " يَحْرِصَ عَلَى بُوصَلَتِهِ مِنْ أَنْ تَتَأَثَّرَ بِتَيَّاراتِ الجَّذْبِ الشَّديدِ فَيَضِلَّ طَريقَهُ وَيَنْحَرِفَ عَنْ وُجْهَتِهِ". كان صديقه ناصحاً , كان خوفه على صديقه كبيراً"خَوْفًا وَشَفَقَةً عَلَيْهِ" المشهد يعرض صديقاً صدوقاً من النادر وجوده , نشعر أنه خاف عليه أكثر من خوفه هو على نفسه فحاول حتى النهاية أن يحميه مما كان مُقدماً عليه لكنه لم ينجح "كِنَّ الحَبْلَ بَقِيَ مَشْدُودا وقَوِيًّا لِوَقْتٍ قَصيرٍ قَبْلَ أَنْ يَتَأَرْجَحَ بِقُوَّةٍ ثُمَّ يَضْطَرِبَ شَدَّةً وَرَخَاوَةً فَحَاوَلَ لَهَفًا أَنْ يجذبه بَحَرَكاتٍ حَائِرَةٍ مُتَتَابِعَةِ مُتَرَدِّدَةٍ لئِلاّ يَنْقَطِعَ وَلَكِنَّ الحَبْلَ لانَ أخيرًا فَأَخَذَ يَسْحَبُهُ والدّمْعُ يَنْحَدِرُ مِنْ عَيْنَيْهِ "تصويرٌ دقيقٌ لشدة خوفه و لهفته و صدق قلقه فلم يستسلم أو يُعرض عنه بحجة أنه لم يأخذ بالنصيحة .

قد يكون الحبل هنا هو صراع ذلك الشخص مع ذاته ,بين الخير و الشر في داخله , بين الحق و الباطل , بين تياراتٍ تجذبه و حبلٍ يربطه بسارية الحق التي تٌبقيه مُحافظاً على وجهته "حْكِمَ قَبْضَتَهُ عَلَى الحَبْلِ الّذي يَصِلُ بَيْنَهُمَا وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى بُوصَلَتِهِ مِنْ أَنْ تَتَأَثَّرَ بِتَيَّاراتِ الجَّذْبِ الشَّديدِ فَيَضِلَّ طَريقَهُ وَيَنْحَرِفَ عَنْ وُجْهَتِهِ ، وبَقِيَ مُمْسِكًا بالحَبْلِ بقُوَّةٍ مِنْ طَرَفِهِ الأَعْلَى رُغْمَ أَنَّهُ مَعْقُودٌ إِلَى سَارِيَةٍ راسِخَةٍ خَوْفًا وَشَفَقَةً عَلَيْهِ" كلنا نعيش ذلك الصراع بداخلنا مُذبذبين بين أمرين و لشدة الصراع و التجاذب نشعر أن هناك شخصين بداخلنا يتصارعان أيُهما على الحق هل هو من يقف ناصحاً خائفاً مُشفقاً من مغبة ما يسعى له الآخرمن تغيرٍ لاتجاهه .

كان مُكابراً مُعرضاً عن النصح , ارتخاء الحبل كان دليلاً على بدء ضياعه لكنه لم يتدارك الأمر و استمر حتى انقطع الحبل و بذلك استنفذ كل فرص و سبل العودة, فكان انقطاع الحبل رمزاً لانقطاعه و انسلاخه عن تاريخه و ماضيه فلم يعد هناك ما يربطه بما مضى و لم يعد باستطاعته العودة و تدراك الأمر .
يقول هارون بن علي
أصلي وفرعي فارقاني معاً ... واجتث من حبليهما حبلي
فما بقاء الغصن في ساقه ... بعد ذهاب الفرع والأصل

مشهد النهاية كان رمزياً فلم نعرف من الذي طفا على الماء هل هو الحبل ؟ أم أنه أحدهما؟ لكن معنى الانقطاع و البُعد واضح و هو الأهم من إدراك شخصية الذي طفا , حدث الانقطاع هو الأساس الذي سُلِطَ عليه الضوء ما يُهمنا الحدث و العبرة التي يحملها ,إذا أعدنا النظر إلى العنوان فإن أول ما يتبادر إلى الذهن إثر سماع كلمة حبل هو الخوف من انقطاعه , و مَثل انقطاعه الخاتمة التي وضعت القارئ أمام مخاوفه , و هذه إحدى غايات و وظائف الأدب أن يضعنا في مواجهةٍ مع مخاوفنا التي نهرب منها و بالتالي بعد هذه المواجهة نُدرك عبرةً قد تُمثل درعاً واقياً لنا في المستقبل لأننا عشنا تلك التجربة أو شيئاً منها من خلال نصٍ قرأناه .