الحُــبُّ سَــيِّدُ الأَدِلّــَةِ ...*
الحُبُّ سَيِّدُ الأَدِلَّةِ ... الحُبُّ سَيِّدُ الأَدِلَّةِ
بـقَلَمِ: مَنْ أَحَبّوكَ
إِليكَ يا مَنْ صَنعْتَ لنا مِنْ صَباحاتِكَ أُمْسياتٍ دافِئَةٍ ...
نُلَمْلِمُ أَشْياءَنا الْمُبَعْثَرَةَ لنُهاجِرَ إِلَيْكَ عَبْرَ الْحُروفِ ، وَنَقِفَ عَلى خَيطِ الإنْصاتِ والتَّحدُّثِ، حَيْثُ تَنْكَسِرُ الْمَحابِرُ الْأَنيقةُ أمامَ قامَتِكَ السّامِقَةِ ، فَبَعْضُ الصِّدْقِ شاهِقٌ تَدورُ حَوْلهُ الْكَلِماتُ ، وَيَعْبُرُ في قُلوبِنا الْيَتيمَةِ دونَ أنْ يسْتَأذِنَ...
وَحدَكَ –أيُّها الْكَبيرُ – قِنديلٌ لا يَنوسُ وَلا يَنْطَفِئُ في قُلوبِنا ، يُضيءُ فيها شَوقَ الِّلقاءِ إلى عَيْنيكَ ، وَنَحْنُ الْقَليلونَ إلاّ مِنْكَ ، نَدْنو مِنْكَ احْتِراقاً ، وَنَسْقُطُ في الْمَسافَةِ بَيْنَ أرواحِنا وروحِكَ...فَبِماذا نَدْعوكَ ، وأنْتَ سَيِّدُ الْأدلّةِ على أَنَّ الزَّمانَ ما زالَ جَميلاً...
أتعْلَمُ – أيُّها الكَبيرُ – تُحاوِلُ الكَلِماتُ أنْ تَخْرجَ مِنْ بينِ أصابِعنا حُروفاً وقَطْراً لتَسْكُنَ ورقاً، ونُحاوِلُ عَبثاً بَعْثَ قَصيدَةٍ أوْ بَعْضَ قَصيدَةٍ، وَلكنْ هَيهات!!!
نحاوِلُ أنْ نُناسِمَكَ شيئا مِنْ عبيرِ حُضورِكَ الدّائِمِ بِنا ، فلَمْ تَعُدْ تُفيدُنا الأمْكِنةُ، فَنحنُ مُمْتَلِئونَ بِكَ ، فمرّةً نَحْسبُكَ هديةً تَدلّتْ مِنْ صرَّةِ السّماءِ ، نَمُدُّ أيْدينا لِنَحْفظَها طّيَّ الْقُلوبِ، وَنَتَمادى مَرّاتٍ و مَرّاتٍ لِنُغْمِضَ أَعْيُنَنا عَلى أيْكَةٍ تَجْمعُنا لِتغيبَ فينا حُضورًا ، فَقَدْ جعلْتَنا نُجيدُ السِّباحَةَ في قَطْرةِ غيثٍ، وأمّا وصْلُكَ- يا مالِئَ قُلوبِنا- فَغايَةٌ لا تُدْرَكُ، لأنّكَ ينابيعُ حُبٍّ لا تَجِفُّ عُيونُها،ونَحْنُ نَجْتَهِدُ لَعلَنا بِما نَمْلِكُ مِنْ صِدْقٍ أَنْ نُسْقِطُ مَشاعِرَنا في قافِ قَلْبِكَ...
صَباحُكَ شَمْسٌ
يَبْدو أنَّ عَلَيْنا أنْ نَرتفِعَ بِنُفوسِنا إلى هاماتِ الرُّؤيَةِ في حُضورِكَ الجَميلِ ، ونَلوذَ خَلْفَ قواميسِ نُفوسِنا المُتْخَمَةِ بِكَ ...فَقَدْ بَحَثْنا في أوْراقِنا الَقَديمَةِ عنْ معاني أوْدَعْناها ذاتَ يَومٍ في دفاتِرِ الْجَمالِ فرأيناكَ أصْلَ الْجَمالِ ومُنْتهاه..فلا يَتَبنّى الوَرَقُ الْحَديثَ عَنّا ما لَمْ يَكُنْ مَمْهورًا بِروحِكَ...
أمّا عَيناكَ فَتَسْرحُ في مَواويلَ دِمَشقِيّةٍ عَذْبَةٍ ، نَغيبُ مَعها في حاراتِ دِمَشْقَ القديمَةِ، وشَوارِعِها الضّيّقَةِ ، وبُيوتِها الْعَتيقَةِ ، لنَتنفّسَ عِطْرَ الْحَميديّةِ والصّالِحيّةِ والْمرْجةِ(1)...وَنَسمَعُ على شُرُفاتِها:
( يا مالْ الشّامْ يا الله يا مالي طالْ الْمَطالْ يا حِلْوَة تَعالي)

ونَستَشْرِفُ الطّفولَةَ الشّقيّةَ الّتي تّحْتّلُها بّراءَةُ الصِّغارِ في البَوّابَةِ(2) ، وعّلى ضِفافِ بَردى، لِنّسْمَعَ :
( مِنْ قاسِيونَ أُطِلُّ يا وَطَني فَأرى دِمَشْقَ تُعانِقُ السُّحُبا)

وَكَأنّك تُردِدُ مَعَ الْجَواهِريِّ قوله:
(دِمَشْقُ عِشْتُكِ رَيْعانا وَخافِقَة وَلُمَّةً وَالْعُيونَ السّودَ والْحَدقا)

نَتوجّهُ إِلَيْكَ يا جَبلَاً مِنْ هَمٍّ إنْسانيٍّ نَبيلٍ يَقْطُنُ مَساماتِ الْجَبينِ ، ويا عَينان يَسْكُنُهُما الْأمانُ، ويا قامَةً باذِخَةً العُلُوِ وَعياً وفِكرًا ، ويا عربيّاً عَنيدًا تأخُذُهُ هُمومُ الأمّةِ إلى أقْصى التّطَرُفِ ، وتَستعيدُهُ قَصيدَةُ شِعْرٍ أوْ عبارَةٌ جَميلَةٌ،فإنَّ أصْعَبَ شيءٍ على مِنْ يقابِلُ عينيكَ أنْ يَنْظُرَ في المساحاتِ الرّحْبَةِ الّتي تَنْظُرُ إلَيْها ، وأنْتَ في انْتِظارٍ يَحْمِلُ الشّموسَ الغائِبَةَ والأقْمارَ الْمُرْتحلَةَ ، وَيَتربّصُ بِها شَوقًا...
دُلّنا على الْمَقهى الّذي تَحْتسي بِهِ قَهوتَكَ عَصْرًا ، وأخْبِرنا مِنْ أيْنَ تَبْتاعُ جَريَدتَكَ الصّباحيّةَ؟ وأيْنَ تَضَعُ غُليونَكَ ؟ وأيْنَ تُعَلِّقُ مِعْطَفَكَ الشّتويَّ ؟ ... لّعَلّنا نَعْثُرُ بَينَ أَشيائِكَ عنْ لَحْظَةِ انْتِظارِ القادِمِ الْجَميلِ ، فالتّرقبُ مَسْرَحيّةٌ عَبثيّةٌ نَحنُ أبْطالُها والْخَيْطُ بِيدِ الشّوقِ، والانْتِظارُ يَعرِفُ مُرْتَقبيهِ ، ويَحْفَظُ مَلامِحَهُم، وَيَبْدو أَحْياناً زائِراً ثَقيلاً لا يَعرِفُ كَمِ السّاعَة بِتوقيتِ الْحُبِّ .
كَثيرٌ مِنّا – يا سَيّدي – يَتقوقَعُ باليَأسِ ، وَتبقى مَراياهُ مَشروخَةً ، لِيِتلمَسَ الْوجوهَ الـْجَميلَةَ ... أمّا أنْتَ فَترصُدنا في دَفاتِرِ الحُضورِ والْغِيابِ ، ونَحْنُ تَأَخَرْنا في الْكِتابَةِ إِليكَ و لكننا لمْ نَـتأخَّرْ تَجاهُلا بلْ انْتظارًا للصّدى...
عِندَما نَراكَ أوْ تَعبرُ في ذاكِرَةِ كُلِّ مِنّا فإنّنا نُغْمِضُ أعْيُنَنا على بقايا النّقَاءِ ، فالْحُبُّ بينَ المُتشابهينَ لا يَخْتارُ الأماكِنَ المُناسِبَةَ لِلْقاءِ ، ولا يُتْقِنُ تَتدبيجَ الْمُقدّماتِ ، ولكِنّهُ يَتْرُكُ الأماكِنَ كُلَّها لِلَحَظاتٍ قادِماتٍ...
إنّكَ الْوحيدُ الّذي يّتَحَوَّلُ إلى حَرْفٍ عَلى شِفاهِ الأنْقياءِ، ثُمَّ يَرتَحِلُ في لَحْظَةِ نُطْقٍ لِيِتْرُكَ حَلاوَةَ حُضورِهِ في الْغِيابِ ، وَها نَحْنُ أولاءِ نَتْرُكُ أماكِنَ جَمَعتْنا وَنُودِعَكَ لِنلتقِيَ بِكَ في الذّاكِرَةِ ، أوْ رُبـّما على الطّرَفِ الثّاني مِن هاتِفٍ يَرِنُّ مُؤْذِنا بِسماعِ صَوْتِكَ ...
حَدّثْنا – أَيُّها الْكَبيرُ – عن صباحاتِكَ الْمُتْرَعَةِ بالْجَمالِ ، وعَنْ رياضَتِكَ الصّباحِيّةِ ... عَنْ قَهْوتِكَ ، وعَنْ مِزاجِكَ الّذي يَتجاوَزُ صَلَفَ الّنهارِ بابْتسامَةٍ عذْبَةٍ...
عَلِّمْنا الْوَفاءَ في زَمن غادِرٍ ، والصّدْقَ في زَمنِ كاذِبٍ ، والْعطاءَ في زَمنٍ ضَنينٍ ، والْطُهْرَ في زَمَنٍ مُدَنَّسٍ، فأنْتَ مدْرسةٌ في فُنونِ النّقاءِ.
أمّا أنا – يا سَيّدي – فَقَدْ جَرَبْتُ أنْ أَعيشَ طُقوسَ الْكتابَةِ قَبْلَ الشّروعِ بِها ، وَبَحثْتُ في عالَمِ الدّهْشَةِ عنْ كَلماتٍ لمَ يَطأْها قَلَمٌ ، فكانَ حُضورُكَ فَوْقَ كُلِّ الطُّقوسِ...
كَلماتٌ خَجْلى خَرْساءُ إلاّ مِنْكَ ، وأَنْتَ الباحِثُ عّنْ مَساحاتٍ أُخْرى للفِكْرِ بَعْدَ أنْ عَلَّبْناهُ في مَثْوى الْمَكانِ ... مَنْ يا تُرى مِثلُكَ يَقْبِسُ مِنْ صَحْراءِ التّيهِ رُؤيا صََبْوَةٍ مُشْتَعِلَةٍ ، مُدْرِكاً مِنْ نَكْهَةِ الْغَيمِ نِهاياتِ الْفُصولِ ، لَعَلَّ كُلّا مِنّا يُصْبِحُ قِنديلاً في ظَلامِ الأبْجَديّةِ ... وها صَهيلُ الرّيحِ مِنْ عَينيكَ يَنقَلِبُ إلى خيولٍ كانَتْ مُطْرِقَةً تَرْعى مَعَ الْخِرافِ، وكُلُّ ما حوْلَنا مَنْسيٌّ على خَطّافِ ذاكِرَةِ الْكآبَةِ، وَجِسْرُ الْمُستقْبَلِ يَشْتكي بُطْءَ عابِِريهِ ، وأنْتَ الْكيميائيُّ الأديبُ الّذي يُفَتِشُ في مُخْتَبَرِ الأحْلامِ عَنْ أُكسيرٍ وَرْديٍّ شارِدٍ بينَ عَناصِرِ غُرْبَتِنا الرّوحيّةِ ، ونَراكَ وَأنْتَ تَقْتَنِصُ الهُنيهاتِ لِتَصْنَعَ بُوصلَةً لِفُصولِنا الضّريراتِ لِنُنهيَ جَدَلَ غُرْبَِتنا بالرّفْضِ لا بالبُكاءِ ، بَعْدَ أن انْكَفأنا على قَلَقِنا، والْعُمْرُ مَشْغولٌ بِنَسْجِ أَعْبائِهِ...
أمّا الأديبُ فيكَ فَينعي شِعْراً يَغْفو على خَطاياه ، والْكَلِمَةُ الْحُلُمُ منشَغِلةٌ في دعْوةِ مَواليدَها الطَّيّبينَ، ورُؤاكَ تَمْتَدُّ أبْعَدَ مِنْ مَعاطِفِ الصُّحُفِ الْعالَمِيّةِ، وهِيَ تَخْلَعُ عَنْ جَسَدِها صُوَرَ الُعُهْرِ...
وَسَتَبْقى- يا سيّدي - الْباحِثَ عَنْ نُشورٍ عَظيمٍ... عَنْ جيلٍ يُخَضِّبُ وَجْهَ الْقَمَرِ؛ جيلٍ يَرْحَلُ مَعَ طُيورِ الْبِشاراتِ إلى شاهِقاتِ الْعُروشِ ؛ جيلٍ يَطْلُعُ مَعَ الْفَجْرِ بَرْقاً؛ لِيُمزِّقَ شَرْنَقاتِ الْخَوْفِ في داخِلِهِ ، وأنْتَ الْمُؤْمِنُ دائِما بأنّهُ لَيْسَ أمامَ الْحَقيقَةِ مُتّسعٌ لِتَرددٍ ، فَقدْ مَلَلْنا تَجَرُعَ الإِرْثِ الْمُرِّ مِنْ مِلْحٍ وَحِبْرٍ ، وأحْلامُكَ تَتوسّدُ مَعَكَ ذُهولَ الْغِيابِ...
أَيُّها الْكَبيرُ ... سَنَدْخُلُ مَعَكَ مِرْجَلَ الْكَشْفِ ، وَسَنعيشُ تَنائي الّلذاذاتِ، وَسَنلتقي عِنْدَ الْكِتابَةِ ، وَسَنَكْتُبُ مِثْلَما الرِّياحُ تَكْتُبُ في دَفْتَرِ الْمَوْجِ أَعْصابَها بَيْنَ عَصْفٍ وَلينٍ ، وَغِيابٍ مِنْ حَنينٍ...
هانَحْنُ أولاءِ نُشارِفُ على الانْتِهاءِ مِنْ طُقوسِ الْكِتابَةِ إليْكَ ، وَنُغادِرُ بِصَمْتٍ يَفوقُ الدَّهْشَةِ، وَنَحْنُ المُصافِحينَ لِقَلْبٍ يَحْتوي الْكوْنَ حُبّاً ...
أتَدري أَيُّها الْجَميلُ – هُنا نَتَوقّفُ عَنِ الْكِتابَةِ لِأنَّ الْحَرْفَ الّذي يَكْتُبُ عَنْكَ لا يَجِبُ أَنْ يَتَكررَ ..!!
• رسالة إخوانية إلى الحبيب الأب والصديق العالم والأديب أستاذنا الدكتور محمد حسن السمان
(1) الحميدية والصالحية والمرجة : أحياء من دمشق القديمة.
(2) البوابة : حي دمشقي ولد فيه أستاذنا.
الْكُوَيْتُ في 12-4-2007