نقوش

وائل راشد

نقش(1)

أحدهم يمسكُ كاحله بقوة: الصورُ كلها غريبة، ومقلوبة. ضربةٌ قويةٌ على قفاه أطلقتْ العنانَ للسانهِ بالبكاء، مع أولِ شهيقٍ له في هذه الدنيا. كان مستحماً بدمه، والأحمر أول الألوان التي أبصرتها عيناه الصغيرتان.
صفعة.. صورٌ مشوهة.. بكاء..دماء.. هكذا استقبلَ عالمهُ الجديد.
نقش(2)
طعمُ الملحِ عند الاستحمامِ الأول.. استبدلوا ثدي أمه بتلك الرضاعة الاصطناعية.. ثم تلك "القمطة" اللعينة" وأيدٍ مربوطةٍ عاجزة عن الحراك. منذ اللحظة الأولى تمنى العودة إلى رحم أمه فهناك عالم آخر من الحرية.
نقش(3)
بدأ بالصراخ الذي سرعان ما تحول إلى بكاء متواصل. كان يعبر عن رفضه لكل ما حوله، بوسيلته الوحيدة التي يمتلك. أخيرا اعتاد الأمر. لقد فقد الأمل، فلم يكن من يسمع رفضه. تعلم لغة الصمت...
نقش(4)

في لقائهما الأول أهداها وردة.
في لقائهما الثاني أسمعها قصيدة غزل.
في لقائهما الثالث لم تحضر.
بعد أسبوعين سمعها تقول لصديقاتها: مسكينة من ستتزوجه، ومساكين هم الأبناء الذين سينجبهم، سرعان ما سينتهي الغزل ويأتي أوان أكل الزيت والبصل.
نقش(5)
كان التشخيص بأنها مصابة بسرطان الثدي ويجب أن تتم عملية الاستئصال في أسرع وقت ممكن. أُجريت العملية وتم استئصال ثديها. نجحت العملية بجدارة. دارَ حديثٌ بينَ الأطباء بعد انتهاءِ العملية أن هناك خطأ، فصورة الأشعة كانت لمريضة أخرى. فقرروا ببساطة إخفاء الخبر .
نقش(6)
قرر أن يدّعي الجنون هرباً من واقعٍ مرْ، وحياةٍ فقيرةٍ حقيرة، هرباً من الظلم اليومي والاحتضار في كل لحظة، هرباً من كل الضغوط المحيطة به. مؤمناً انه الحل السحري لما هو عليه من سوء. وبعد أن مرت خدعة الجنون على الجميع، وصار معروفاً "بسعيد المجنون"، اشتاق الرجل لعقله، فقرر العدول عن مشروعه. أراد أن يعود كما كان، لكنه صار سخرية الحي. صارت أفعاله أكثر جنونا، لم يستطع أن يكون إنسانا عاديا كما كان. ببساطة جن الرجل.... فقد عقله.
نقش(7)
وجعُ صدرك يأتيك منَ التفكيرِ المتواصل، ومن الضغوط اليومية. إذا هي أزمة نفسية. هكذا قال الطبيب؟!! هل هذا الطبيب مجنون؟. يريدني أن لا أفكر؟.. يريدني أن أكون "بلا مخ "؟.
أقنعت نفسي بأن موجات الألم هذه ناجمة عن تغيير نوع الدخان. لقد نزلت من الحمراء الطويلة إلى الشرق "طبعا الطويلة" بسبب تدهور الحالة المادية، وسوف أعتاد على الدخان الجديد. زاد وجع الصدر ورافقه وجع الرأس، لكني مقتنعا بأن موجات الألم هذه لن تزول حتى لو دخنت "المالبورو". فأفكاري تحتضر .. وروحي تموت يا ناس.
نقش(8)
راحَ يَعُّدُ الأمنياتِ التي تمناها مذ كانَ صغيراً. رسام.. معلم.. طبيب.. عازف.. كاتب.. تاجر.. لم تتوقف أمانيهِ المتبخرة عند رقمٍ محدد...
وفي يومٍ شتائيٍ ماتَ أبوه. دخل الحانوتي وبدأ بمراسيمِ غسيلِ الميت. وممازحاً راح الحانوتي يسردُ طرائفاً مرتْ معهُ في مهنته. محاولاً بذلكَ التخفيفِ عليهِ مما أصابهُ من حزنٍ على وفاةِ والدهُ.
- كله لوجه الله يا بني، لقد قمت بغسل وتكفين الكثيرين، منهم الطبيب والمهندس والزبال والتاجر... والله أعلم من سيقوم بتكفيني إن مت. فلا أحد يدوم سوى وجه الله.
الله يا دنيا، كل الأمنيات والأحلام تنتهي باللمسات الأولى للحانوتي. بعدها لم تفتهُ أية جنازة.. أصبحَ حانوتياً.
نقش(9)
لم يعد زرياب يستطيع العزف ولم يعد يطربه سماع الغناء. وفي الطريق إلى بيته سمع المتنبي يهذي ويبصق ذات اليمين وذات الشمال. صديقي وزرياب والمتنبي ليس جديرا بهم العيش في عصر لا يعترف بالشعر والغناء، ويحتفي بالأخضر الذي لا يشبه لون أشجار الغابة. صديقي أصابته الكآبة وقتله الانتظار والملل هو وكل الأصدقاء وبينهم قد تكون أنت أيها القارئ غير المحايد.
نقش(10)
فكرَ في دخيلةِ نفسهِ: أصعبُ ما في الاختيارِ بين أمرين، أن تعيشُ لبقيةِ عمركَ في ندمٍ شديدٍ لعدمِ اختياركَ الأمر الآخر. قال وهو بالكاد يقدرُ على جرِ قدميه بسبب تقدمه بالعمر: "اكتشافٌ مذهلٌ تحتاج إلى ثمانين عاماً أخرى، لتفكر فيهِ ولتشعر بالندمِ من جديد".
نقش(أخير)
قالَ لنفسهِ: الجميعُ يشاركوكَ النجاح
ويتركوك إن فشلتْ.
قالت لهُ نفسهُ: ما أصعبَ الوحدة أيها الفاشل.