إلى أين يا درويش

شعر: يوسف أحمد- فلسطين
13/8/2008
هو الموتُ في كفّ القضاءِ نَوازلُهْ فلا هو مُنحازٌ ولا مَا يُشاغِلُهْ
نُشيحُ بوجه الكِبْر عنه فننحني تُجرجُرنا للقبر يوما سلاسِلُهْ
فهذي المنايا في الرّحاب طوائفٌ يموتُ بها المفضولُ قدْرا وفاضلُهْ
ولله أمرُ العمرِ قبلَ مجيئِها ولله أمرُ العمرِ حين تُعاجِلُه
تُكفّن هذا في ثيابِ صديقِه وتَدْفنُ هذا في مكانٍ يُزَايِلُه
فلا الظالمُ الجبّارُ ينجو بظلمِهِ ولا النازحُ المَنْفِيُّ تُجْدي رواحِلُه
ولا الناثرُ المُفْتَنُّ يحميه فنُّهُ ولا الشّاعر النِّحريرُ تَحمي مَحافِلُهْ
فسبحانَ ربّي إذ طواكَ قضاؤه وما زال في قلبي الجريح تَساؤُلُه
إلى أين يا درويشُ والأفْقُ مُثْخَنٌ وقلبُ الرؤى المفطورُ ينـزفُ سائـله
إلى أين والأحلامُ في الأسْر كلما تنفّسَ بابُ السِّجْن ضاقتْ مفاصِلُهْ
إلى أين لا حيفا تُضاحكُها المنى ولا بحرُها الفيّاضُ يبسِمُ ساحلُهْ
ولا الكرملُ المحزونُ حجّتْ طيورُه إلى مسجدِ الروحِ الذي ناءَ كاهلُهْ
إلى أين لا عكا تُصافحُ بحرَها ولا "البروةُ " الشَمّاءُ منها تُغازلُه
ولا النورسُ المَنْفيُّ يشدو مُرَتِّلا على الموجِ آيَ العَوْد والمدُّ مَاطِلُه
إلى أين لا الليمونُ يُشرقُ لونه ولا القمحُ تَرفُو في الأمانِ سنابِلُه
ولا البرتقالُ البكرُ يتلو أريجَه على مَفرِق الأيامِ والحزنُ قاصِلُهْ
رويدك يا درويشُ فالحُزْن طافحٌ ونَبْعُ الأسى المَوّارُ تَغْلي مَراجِلُهْ
يُزحزحُ فجرُ القدسِ أثقالَ حزنِه فترميه بالمـوتِ الزُّؤامِ قـنـابِلُهْ
وتسطو على قلب الجليــلِ مواجـعٌ تَخِـرُّ لها أضلاعُه وخمائِلُهْ
إلى أين والمَنْفَى يَضيقُ بشعبِنا وتَروي حكاياتِ اللجوء أرامِلُهْ
وينبتُ منا الطفلُ في رحْم شدّة وتُلْقمه ثديَ الخيامِ غوائلُهْ
رحلْتَ إلى المَنْفى الغريب مُؤمِّلا رحيلَ المنافي فاستطالتْ منازلُه
وعدتَ إلى الأوطانِ عودةَ آملٍ بصبح فهُدّتْ بالصّراعِ هياكِلُهْ
لقد كنتَ كفّا للتوحّد كلما تَفتَّقَ خَرْقٌ رحتَ تسعى تُحاوِلُه
رويدك يا درويشُ كيف تَركتَنا وهذا الخلافُ المُرّ تنمو فسائِلُه
ترجلتَ و"الغبراءُ" تطردُ "داحسا" وتغزو ثغورَ الحيِّ فيه قبائِلُه
ويمشي "كليبٌ" في الدّماءِ مُسِرْبلا وفي إِثْرِهِ "الجَسّاسُ " تَسْطو مَنَاصِلُهْ
أأغراكَ بالموتِ البعيدِ تناحُرٌ تُدَفُِّـن حـُلْـمَ الشَّعْـبِ فيه فصائِلُه
فرُحماك يا رحمنُ بالشّعب بعده ورَحماكَ بالشّعر الذي مات صاقِلُه
طَوَتْهُ يدُ الموتِ الشديدِ بغربةٍ ومَسّتْ سويداءَ القلوبِ رسائِلُه
وفاضتْ عيونُ القدسِ بالدمعِ حَسرةً تُبَكّي جَمالَ الشّعْر إذ خفّ هاطِلُه
وتَرثي فتى الأوطانِ ضجّت لِموته قوافي قريضٍ أَبْدَعَتْها أنامِلُه
وتنعى الخيالَ الخِصْبَ إذ جفّ ضَرْعُهُ فضاقتْ له آفاقُه ومَناهِلُه
حنانَيكَ يا درويشُ كيف تهاطلتْ بأرضِ المنافي روحُ فذ ٍّ ووابِلُه
وكيف ذوى قلبُ الغريبِ بِمِبْضَعٍ وقد كانت الطَّعناتُ دوما تُعاجِلُه
وهل ظلَّ في الجسمِ العليلِ خليَّةٌ بمَنأى عن السّهمِ الذي اشتطّ نابِلُهْ
تعاقبـت السّتـونَ يَنـهـشْنَ لحمَهُ ويَمضغْنَ شعرا رَفّ فيه تفاؤُله
فبـالـلـهِ يا جـَـرّاحُ أيَّ قصيدةٍ قرأتَ بقلبٍ أَدْمَنَ الحُزْنَ حامِلُهْ
وأيَّ معانٍ قد ذخرتَ لآجلٍ بهذا الفتى المذبوحِ إذْ حلَّ عاجِلُهْ
وأيَّ رؤى لَمْلَمْتَ مِنْ كفِّ شِعْرِه فهذا فتى الإنسانِ والشِّعْرُ بابلُِهْ
ويا أيها الرّاثونَ مَهلا فإنني رأيتُ غدَ الأيامِ خُرسا بلابِلُهْ
رأيتُ حصان الشعرِ يصهلُ وحدَه وما من حصانٍ بالأمانِ يُصاهِلُه
فهذا حِمى العِلْم الحديثِ مُحاصَرٌ تَذِلُّ لِمِفْتاحِ الشّرورِ أنامِلُه
وتوقدُ حربا قد تبدّى سُعارها فيشقى بها كونٌ ويعظُمُ قاتِلُه
رأيت الضحايا بالملايينِ إذ بدتْ تُطَوّحُ بالكونِ الفسيحِ زلازِلُه
فتلك جبالُ الرّعبِ فينا تناوحتْ وذاك السّحابُ المُرّ تدنو جحافِلُه
تنفّس أُفْقُ الكونِ مِنْ سَمّ إبرةٍ وخِيطتْ بسُمّ القاذفاتِ غَلائِلُه
رأيتُ غرابَ البينِ ينعقُ بالأسى وهذا الرّدى المحمومُ يُمطرُ وابِلُه
فلا القبرُ ضمّ الناسَ والموتُ دائرٌ ولا الكَفَنُ المحمولُ يَحميهِ حامِلْه
كأني بدرويشٍ يخاطب من رثى وتقرعُ آذانَ النعاةِ جلاجِلُهْ
أغيثوا بني الإنسانِ فالشرّ قادم وذي الحربُ دربٌ والشعوبُ قوافِلُه