أسود .. أبيض ..


بدا له للوهلة الأولى أن كل التناقضات سوف تختفي ، وتختفي معها الفوارق الطبقية القاسية جداً .. تذوب أمام حشد من المعطيات الايجابية يوماً ما .. وسيغدو العالم مكاناً أكثر عدالة واحتراماً ، حيث يمكن للإنسان حينها أن يكون إنساناً ..
لقد بدا له وهو يتوجه إلى الحلم .. العدل .. المساواة .. الأمل المنشود ..
وككل التوجهات كان لا بدّ من العوائق والعقبات في الطريق ، وسالكي الدرب يدركون ذلك تماماً ، ولكن ماذا لو كانت تلك العقبة تمس أخص ما في الإنسان الأسود .. لون جلده الذي لا اختيار له فيه ؟
بدا له ..
**************
في ربيع عام 1935 ، والأجواء تزيد الحياة عبقاً .. وضبّ أغراض السفر للانطلاق مسافراً إلى نيويورك تلبية لدعوة حضور مؤتمر الكتاب الأمريكيين اليساريين ، بحثّ من اللجنة الشيوعية المحلية التي عينته مندوباً ..
لم يكن متحمساً للذهاب ، وقد استقبل الأمر بفتور بسبب الهوة الفاصلة بينه وبين الأغلبية التي أحس أنها تسبح عكس اتجاهه .. وهو الذي غادر الجنوب الأمريكي والكبت والتعصب العنصري متجهاً إلى الشمال ، حيث يستطيع أن يتكلم بحرية ويتخلص من الخوف ، أو هكذا ظن .. فإذا هو يواجه مرة أخرى الخوف الذي فرّ منه ..
حطت طائرته في نيويورك فحطت معه آلامه ومعاناته ..
لم يكن ( ريتشارد رايت ) يدرك جيداً أن لون جلده سيثير الارتباك والحيرة في قاعة ( كارينجي ) مكان المؤتمر ، عندما سأل عن مكان النوم ومعداته ، فوقف مشدوهاً أمام اثنين من أعضاء نادي ( جون ريد ) وكلهم شيوعيون بيض ، يتباحثان جانباً في كيفية إيجاد مكان لهذا الزنجي الأسود !
لقد نسي خلال رحلته لون جلده ، كان عقله يسيح في مكان آخر ، حيث مشاكل الكتاب اليساريين الشباب ، فاصطدم بحاجز فولاذي عندما رأى رفيقاً له في المسيرة يتحدث بعصبية عن لون جلده ..
شعور بالاشمئزاز انتابه ..
ـ لحظة واحدة أيها الرفيق سوف أجد لك مكاناً . قالها الرفيق الأبيض .
ـ ولكن أليست لديكم أماكن جاهزة ؟ إن أمثال هذه الأمور تجهز عادة من قبل .
لمس ذراعه ليطمئنه بأنه سيجد له مكاناً ، بينما ذهب ريتشارد بالقول بأن لا يزعج نفسه ، فهزّ الأبيض رأسه مصمماً على أن هذه مشكلة لا بدّ أن يجد لها حلاً ..
فلم يتمالك ريتشارد نفسه فرد قائلاً : ما كان ينبغي أن تكون مشكلة ..
فاستدرك الأبيض : أنا .. أنا ما قصدت هذا ..
ولاحظ هناك قريباً عيوناً تراقب كيف أن شيوعياً أبيض يحاول عبثاً إيجاد مكان لرفيقه الأسود .. أحس حينها بالخزي وجعل في سريرته يلعن هذا الموقف ..
بعد دقائق عاد الأبيض زائغ النظرات يغطيه العرق ، فبادره ريتشارد بالسؤال إن كان قد وجد مكاناً ، فأجاب وهو يلهث بالنفي ، ثم طلب منه قرشاً كي يستعمل الهاتف للتحدث إلى شخص قد يحل المشكلة ..
فردّ عليه ريتشارد بأن لا يزعج نفسه وأنه سوف يجد مكاناً ، لكنه طلب منه أن يضع حقيبة ملابسه في مكان إلى أن ينتهي اجتماع الليلة ، فأجابه بلهفة لم يستطع إخفائها : أتعتقد حقاً انك تستطيع أن تجد مكاناً ؟
فأجابه : طبعاً استطيع ..
لقد كان الرفيق الأبيض يودّ أن يساعده ، لكن من غير أن يعرف كيف ! فأخذ حقيبة ريتشارد إلى أحدى الغرف ..
دخل الاجتماع .. لكنه لم يكن يصغي إلى الخطب وإنما يتساءل : لماذا أتيت ؟
وبعد الاجتماع وجد نفسه وحيداً على أرصفة نيويورك هائماً على وجهه من غير هدف ، ومتسائلاً عن كيفية قضاء تلك الليلة ، وهو لا يحمل مالاً سوى جلده الأسود الذي تعاشق مع لون الليل ، سوادان يلفان بعضهما البعض يحكيان حالة من الكآبة الداخلية والصراع النفسي والصدام الواقعي والتمزق ..
أشغل نفسه قليلاً بالتطلع في وجوه الناس حتى قابله عضو في نادي ( شيكاغو ) فسأله إذا ما وجد مكاناً لينام فيه ، فأجابه ريتشارد بالنفي ، ثم صرح له برغبته في دخول فندق لولا أنه غير مستعد ليتجادل مع كاتب الفندق حول لون جلده ..
فتعجب عضو النادي وطلب منه أن ينتظر ، ثم عاد ومعه امرأة بيضاء سمينة عرضت عليه أن تنام الليلة في منزلها .
وعندما وصلا المنزل ، بادر ريتشارد بشكرها وزوجها على استضافته ، وذهب للنوم على سرير صغير في المطبخ ..
**************
كان ذلك الفجر لا شك مختلفاً ، فالكوة المظلمة التي تكدست فيها أيامه التي لا تحمل سوى دقات متكررة .. سيمفونية مملة تعزف كل حين على نفس الوتر .. تتشابه فيها الماضي مع الحاضر ، تلك الكوة في ذلك الفجر انفتحت على أشعة من ضياء سرعان ما لامس قلبه ، فأبصر النور واستجاب النداء ، فغدا باطنه عكس ظاهره بعدما كانا سواء بسواء أسوداً ..
كان لا شيء .. عبدٌ أسود .. آلة .. لا يملك حياته ، فقد اشتراها سيده من سيد آخر !
يخدم بصمت ، فيحصل على حفنات من طعام يسكت به جوعته ويدفع عن نفسه الموت ، يدفعه إلى أعماق النسيان ..
لا أمل هناك ولا ألم .. لا شكوى ولا غد ..
كان لا شيء .. فأصبح كل شيء ..
ثم ما لبث خبر إسلامه أن ملأ مكة وشعابها ، فمال إليه سيده الطاغية ميلاً شديداً قاسياً .. ودارت الشياطين في رأسه .. توعده .. هدده .. خوفه .. ولكنه لم يبالي .. لقد أبصر النور ..
سجنوه .. وعلى الرمضاء عذبوه .. في حرّ الظهيرة والشمس تلتهب .. اجتمعت عليه رؤوس الكفر وأذاقوه ألوان العذاب .. ربطوه بحبال وأمروا الصبيان أن يسحلوه طوافاً على جبال مكة وشوارعها .. وضعوا على صدره المليء إيماناً حجراً ينقله الرجال ..
إنها كلمة واحدة يا بلال وتنتقل بطرفة عين من الجحيم إلى النعيم .. كلمة واحدة وتكون الحال غير الحال .
ـ اذكر أصنامنا وتنكر لمحمد ودينه ..
فيأبى .. ويقول إن لساني لا يحسنه .
وتنهال السياط على جسده النحيل .. فيتداخل ألم السياط بأمل الغد ، فبعد سنوات من الجهاد ضد العوائق والعقبات ، ارتقى هذا الأسود أجلّ منابر الإسلام ، وصدح بصوته الشجيّ النديّ منادياً لأعظم فروض الإسلام .. ولقب بالسيد ..
**************
انطلق ( ريتشارد ) صباحاً إلى الرصيف وجلس على مقعد هناك ، لكي يكتب بعض النقاط لأجل المناقشة دفاعاً عن النوادي اليسارية ، ولكن مشكلة النوادي في تلك اللحظة بدت تافهة له ، والمشكلة التي بدت له على جانب من الأهمية هي :
هل يستطيع الزنجي في هذا البلد اللعين أن يحيا حياة قريبة من حياة البشر ؟







.............................................

ـ ريتشارد رايت : ( 1908 ـ 1960 م ) أديب روائي أمريكي زنجي أسود ، عاش في الجنوب الأمريكي المتعصب عيشة الزنوج الفقراء العاملين في مزارع وضياع السادة البيض الأغنياء المتسلطين ، كتب روايات تناولت الأميركيين السود ومعاناتهم ، منها ( ابن البلد ) و ( الولد الأسود ) .
القصة التي قدمناها تستند إلى كتاب ( الصنم الذي هوى ، آرثر كستلر ورفاقه ، ترجمة : فؤاد حمودة ) ، حيث حكى فيه ريتشارد رايت رحلته في الشيوعية .