المجد للمأساة




كم من المآسي رُميت عليّ، كثيرة حتى أنّي ما عدت أخافها، كثيرة حتى أنّ عمري أصبح برجا من المآسي،شاهقا كبرج بابل .
كنت راضيا تمام الرضا ، قائلا : ربما يكون استئثاري بالمآسي نوعا من الامتياز ، كم كنت فرحا.
فمن برج المآسي أرى انكسار الشمس قبل سواي، ومنه سوف يزداد شعاع الشمس الأخير انحدارا .
ومن نوافذ برجي غالبا ما سوف تتغلغل النسمات الشمالية الباردة الرطبة، ومن يدي سوف يأكل البوم والغراب بقايا الجيف، أما روحي المنهكة فهي قيد الإلهام الأسود وفي يد الأوهام تشنق.
الهدوء والرقّة ذاتهما رغم ذلك لازالا سيدين في شبقها الأخير،هي الحياة التي سوف من هنا من علٍ تنهيني . وسوف تأتي في كل الأحوال، يا أيها الموت - فلِمَ ليس الآن؟
إنني انتظرك وقد نفد صبري . من أجلكَ أطفأتُ الأضواء وفتحتُ الباب ، ولكن كن بسيطا وسخيا، فتعال من فضلك تعال بأي قناعٍ ترغب ، انفجر فيّ كمثل قنبلة أو تقحم كرصاصة تجلي الخدر، أو تسلّل واسرقني على غرار الصعاليك و وزعني بين القبائل غنيمة، سمّمني بدخانك وفنجان قهوتك المرة.
أو كن الأسطورة التي حلمنا بها أطفالا، الأسطورة التي ألمح فيها طرف خوذة باهتة السواد ، وشفة مسدس مزمومة من قسوة الضياع .
لم يعد ثمة ما يهمّني بعد الآن فنهر الأردن يجري مرتاحا،ونجمة داود تلمع فوق المئذنة ،" فمن إذا يا وطني ينهض للصلاة"، والرعب الأخير يُبهِت البريق الأزرق للعينين المعشوقتين .
سوف أشرب نخبا أخيرا لمنزلنا المدمَّر، لحياتنا التعسة، لوحدةٍ عشناها اثنين ، وسأشرب نخبكَ أيضا ، نخب خداع شفتيك اللتين خانتا، نخب جليد عينيك الميت، نخب هذا العالم الموحش، ونخب شهيد لم يعرف كيف يخلّصنا .
الموت الحقيقي لا يشبه شيئا ،صامتٌ هو . بلا جدوى إذ يغطي كتفيّ وصدري بمعطف التعقل . وبلا جدوى كلماته المهموسة عن روعة السكينة والراحة الأبدية، كم بتّ أكرهها وأبعدها عن حدود الممكن، نظراتك هذه العنيدة والجشعة، لا أعلم هل أنتَ حي أم ميت، هل على هذه الأرض أستطيع البحث عنك، أم يمكنني فقط عندما يخبو المغيب أن أندبكَ بصفاء في أفكاري؟
كلّ شيء لك، صلاة النهار ،حرّ الليل الأرِق ، والأبيضُ من درب بلادي، والأحمر من نار عينيّ .
لم يُعشَق أحد أكثر منك،لم يعذّبني أحد أكثر منك، ولا حتى ذاك الذي خانني حتى كدتُ احتضر، ولا حتى تلك التي غمرتني ورحلت .
لقد علّمتُ نفسي أن أعيش ببساطةٍ وحكمة، أنظر إلى السماء وأصلّي للأرض، أتنزّه طويلا قبل نزول المساء كي أُنهك همومي المستوطنة .
وعندما الأشواك تصنع صنيعها في الجسد، وعندما تتدلّى عناقيد السقم دانية ، أكاتب سيد الموت عن انحطاط الحياة، عن انحطاطها وجمالها .
ثم أعود من نزهتي ، احمل أقداري ولا تحملني، والنار تتوهج فجأة على برج المآسي، وحدها صرخة القلق ترفعني وتنصفني، تكسر الصمت من حين إلى حين ، لقد علّمتُ نفسي أن أعيش بقلق وكآبة، حتى إذا قرعتم بابي لن أسمعكم أبدا .
هكذا هو الموت، تارةً يتلوّى مثل أفعى ويمارس سحره في أنحاء العقل وطوراً ينعق كغراب على حافة نافذتي الصفراء.
هكذا هو الموت ، قد يبرق على الجليد المتلألئ أو يتراءى لي في غفوة القرنفلة، لكنه بعنادٍ وصمت يخطف منّي راحة البال ، أسمعه ينتحب برقّة، في صلاة اللاجئ المعذّب، وكم أخاف حين يعلن قدومه في ابتسامة رجلٍ غريب . أنا صوتك يا عاشّقي الكاذب، وحرارةُ لهاثك، وانعكاسُ وجوهك في المرآة ، والخفقان الباطل لأجنحتك الباطلة ... لا يهمّ من أنا، فحتى اللحظة الأخيرة سأرافقك .
لهذا تدّعي حبّي بجشعٍ، رغم قسوتي وشروري ولماذا تلقي إليّ بذاتك وحلمك .
لماذا تقول :لا يمكن لاثنين أن يلتحما أكثر منّا، مثلما لا يتوق الظل إلى الانفصال عن الجسد، مثلما لا يتوق الجسد إلى الانسلاخ عن الروح،هكذا أنا الموت، أتوق يا عاشقي الكاذب إلى أن تنساني.